مساحة حرة

تحالف الخائبين من الرياض إلى أنقرة

زحمة «أحلاف وتحالفات عسكرية» شهدها عام 2015 كان حكام السعودية طرفاً فيها بل تزعموا بعضها بدفع وإيحاء من الإدارة الأمريكية وحماية للمملكة المتهالكة والباحثة عن مخرج لتصدير أزماتها الداخلية إلى الخارج بعد فشل حروبها الإرهابية التكفيرية،

فكانت من أوائل الدول التي سارعت للانضمام إلى «التحالف الدولي» الستيني الذي قادته الولايات المتحدة الأمريكية بنفسها بزعم محاربة «داعش» ثم انفردت السعودية بتشكيل ما يسمى «التحالف العربي» وتزعمته ليساعدها في حربها الوحشية على اليمن، وبعد إخفاقها مع حلفائها هنا وهناك اخترع الحاكم الفعلي في المملكة ولي ولي العهد محمد بن سلمان خلال ليلة واحدة ما أطلق عليه تسمية «التحالف الإسلامي» من أربع وثلاثين دولة بعضها لم يعلم بأنه ضمن هذا «التحالف» إلا بعد الإعلان عنه، وكان هدفه دعائياً واستعراضياً لإخفاء هزائم حكام السعودية في اليمن وإظهار الأمراء الجدد أمام الداخل السعودي الحانق من مغامرات وحماقات هؤلاء بأنهم «مازالوا يمسكون بزعامة العالم الإسلامي» وأن للمملكة الوهابية «دوراً إقليمياً محورياً».

اليوم تطلع علينا القيادة السعودية المأزومة والمرعوبة من نتائج الميدان السوري والعراقي واليمني ولاسيما في الأسابيع الأخيرة من العام الفائت «بتحالف عسكري» جديد سمته «التعاون الاستراتيجي مع تركيا» على إثر هرولة رجب أردوغان المرتبك في الداخل والخارج  إلى الرياض للاستقواء بها على العقوبات الروسية التي قصمت ظهره، ومن أجل تبييت خطة جديدة لدعم التنظيمات الإرهابية وبدء مرحلة من التصعيد الإرهابي ضد سورية، مدفوعين بأضغاث أحلام تغيير موازين القوى التي تسير بشكل متسارع لمصلحة الجيش العربي السوري، إذ من المعروف أن الميدان السوري شهد في الأسبوع الأخير من العام المنصرم ، تقدُّماً للجيش العربي السوري وحلفائه على عدة محاور.

قد يكون هذا التقدم الميداني الكبير أحد الأسباب الرئيسة التي دفعت أردوغان لزيارة السعودية على وجه السرعة وخطب ودّها والتوسل إليها لإنقاده، متجاوزاً الخلافات العميقة بين الطرفين في محاولة لتعويم المجموعات الإرهابية في سورية.

لكن هذا «التعاون الاستراتيجي» هذه المرة بين السعودية وتركيا محكوم عليه بالفشل سلفاً، ولن  يكون قادراً على إعادة عقارب الساعة إلى الوراء في سورية وتحقيق أي تغييرات في المشهد الميداني السوري كما حصل في الصيف الماضي للأسباب الآتية:

–  بروز فعّالية الدعم الجوي الروسي القوية للجيش العربي السوري في تدمير البنى الأساسية للتنظيمات الإرهابية بما فيها المرتبطة بالسعودية وتركيا ووصول معظمها إلى حافة الانهيار ونجاح الضربات الجوية الروسية في قطع أغلب طرق الإمداد عبر الحدود التركية والبدء بإغلاق بوابات العبور بالنيران.

– تكبيل يد سلاح الجو التركي ومنعه من الاقتراب من الأجواء السورية بعد إسقاط  طائرة «السوخوي 24» الروسية في شمال سورية، وفقدان الغطاء الجوي لأي تحركات للتنظيمات الإرهابية التي توجهها أنقرة في الداخل السوري.

– تبديد أحلام أردوغان في إقامة «منطقة عازلة» وهي المنطقة التي راهن عليها حاكم أنقرة كثيراً لتكون منصّة لدعم العصابات الإرهابية برياً، وللتمدد وقضم المزيد من الأراضي السورية.

في المجمل، إذا كان التصعيد الإرهابي ضد سورية هو الهدف الفعلي لزيارة أردوغان للسعودية، فإن الاصطدام هذه المرة لن يكون مع الجيش العربي السوري وحده، وإنما مع القوة الجوية الروسية ومنظومة محور المقاومة التي عززت التنسيق والتعاون بين أطرافها، ومن العسير على هذا  «التعاون الاستراتيجي» بين البلدين دفع المجموعات الإرهابية في سورية إلى مواجهة التقدُّم السوري – الروسي، وإن كانوا لا يزالون يبذلون المحاولات المستمرة  لإطالة أمد الأزمة، وتحقيق مكاسب ميدانية يستطيع من خلالها النظامان السعودي والتركي تحقيق مكاسب سياسية في أي حلّ مرتقب للأزمة في سورية.

من جانب آخر فإن «التعاون الاستراتيجي» لا يمكن أن يلغي سنوات طويلة من الخلافات العميقة بين السعودية وتركيا وهي خلافات جذرية وليست شكلية.

و«التحالف السعودي- التركي» أضعف من أن يواجه أزمات البلدين ومأزقهما الخانق، فالسعودية في مأزق حرب اليمن الذي يزيد من استنزافها، ونظام أردوغان دخل المرحلة الأصعب في حربه ضد حزب العمال الكردستاني، واللافت أن  يأتي إعلان «التعاون الاستراتيجي» في وقت يعاني البلدان أزمات اقتصادية خانقة، فالسعودية ولأول مرة في تاريخها الحديث تعاني عجزاً مالياً وصل إلى أكثر من 98 مليار دولار، أما الاقتصاد التركي فهو في أسوأ مرحلة له منذ مجيء«حزب العدالة والتنمية» إلى الحكم وحتى اليوم، زد على ذلك أن العقوبات الروسية على تركيا بدأت نتائجها الفعلية تظهر مع بداية العام 2016، وهذا يعني أن التعاون الاستراتيجي بين البلدين لن يؤدي إلى تحسُّن في الوضع الاقتصادي لأي منهما.

وعلى الصعيد السياسي، إن إعلان ما يسمى «مجلس التعاون الاستراتيجي» بين تركيا والسعودية لن يؤدي في أي حال من الأحوال إلى تحسين الوضع السياسي لأي منهما، فالمشكلات الداخلية التي يعانيها البلدان لا تنفع معها «تحالفات» عابرة للحدود، كما أن «تحالف» السعودية مع تركيا سيجعل دولاً عربية تبتعد عن المملكة، كمصر والإمارات وغيرهما، وهو ما كان ولي العهد السعودي يحاول تلافيه بعد إعلان «التحالف الإسلامي»، وصراع الإمارات العلني مع تركيا والمشروع «الإخواني» وهي الحليف الأقرب إلى السعودية، سوف يترك ثغرة كبيرة في جدار هذا «التحالف» وبقدر أكبر أيضاً مع مصر التي تعد حكومة أردوغان العدو الأكبر، إذ إن أردوغان هذا لا يزال يرى أن ما جرى في مصر «انقلاب عسكري» ويطالب بعودة مرسي وحكم «الإخوان» إلى السلطة.

لقد فقد حاكم أنقرة توازنه في أعقاب إسقاط الطائرة الروسية، ولم يعد يعرف كيف يتصرف، وكيف يرد على تشديد العقوبات المتلاحقة من موسكو، فراح يعود تارة إلى التحالف مع الكيان الصهيوني ويقدم التنازلات له، ويسارع تارة أخرى إلى الرياض لاستجدائها والتعويض عن خسائره، كما أعلن انسحابه من ««التحالف الدولي» لمحاربة «داعش»»، وذهب بعيداً في حماقاته عندما أرسل دباباته لاحتلال مناطق بالقرب من الموصل، وواجهت هذه الخطوة إدانات دولية واسعة اضطرته لإطلاق تصريحات متناقضة بشأن سحب قواته والإبقاء عليها، وفي النتيجة بات أردوغان يتخبط يمنة ويسرة بينما الوضع الداخلي يزداد تأزماً ولاسيما في حربه ضد الأكراد عسكرياً وسياسياً.

في المحصّلة، لا تبدو آمال «مجلس التعاون الاستراتيجي» التركي- السعودي  بأفضل مما سبقها من «أحلاف عسكرية» تمّ الإعلان عنها من قبَل السعوديين، وفشلت ولن يحل هذا «التحالف» الجديد أياً من المشكلات المتفاقمة والخيبات المتلاحقة التي أنتجتها ممارسات حكام البلدين الخاطئة والمتورطة في دعم الإرهاب وحروبه التكفيرية، وسفك دماء أبناء المنطقة، وهو لن يكون في النهاية أكثر من «تحالف» الخائبين والمفلسين والعاجزين عن الخروج من مربع الهزائم الكبرى التي تلوح في الأفق.

 

د. تركي صقر