قاذفات بوتين من «قاعدة همدان» إلى الجبهات السورية
الخطوة أكبر من مجرد مفاجأة روسية. «عاصفة بوتين» تتخذ شكلاً مغايراً، أكثر فاعلية، وربما أكثر خطورة في إعادة تشكيل المشهد الإقليمي، من طهران شرقاً، الى بغداد ودمشق وأنقرة، وربما أبعد من هذه العواصم.
العنصر الإيراني عامل أساسي في «العاصفة». القمة العسكرية الثلاثية في طهران في حزيران الماضي، بين روسيا وإيران وسوريا، جاءت الآن بمفاعليها، من قاعدة همدان الجوية الإيرانية الى دير الزور وحلب وإدلب. نحو نصف ساعة فقط صارت تفصل القاذفات الإستراتيجية الروسية من الانطلاق من مطار جوي، والوصول الى الجبهات السورية الواسعة. واشنطن «تأسف وتقيم»، بغداد تؤيد وتسهل، طهران تتباهى وتتقدم، وأنقرة قد تفتح مطار انجيرليك للروس، ودمشق، غالب الظن مرتاحة.
كل التفاصيل مهمة. لا قرار إقلاع المقاتلات الإستراتيجية مرتبط بالتطبيع الروسي ـ التركي الذي لم يمض عليه سوى أيام، في حين أن عملية عسكرية كهذه، تتطلب مستلزمات كبرى، ليس أقلها تهيئة المطارات الإيرانية لمثل هذه المهمات، والترتيبات اللوجستية يفترض أنها بدأت منذ اسابيع عدة على اقل تقدير، بما في ذلك شحن وتخزين ذخائر القاذفات الإستراتيجية في همدان، الى جانب إقامة مراكز إيواء وتنسيق للقوات الروسية على الارض الايرانية، للمرة الاولى منذ الثورة الاسلامية في العام 1979.
بهذا المعنى، لقاء الأصدقاء المتجدد بين فلاديمير بوتين ورجب طيب أردوغان، جزء من مشهد إقليمي اكبر بكثير. التنسيق الروسي ـ الإيراني ـ السوري لضرب مواقع الإرهاب في سوريا، سبق «سان بطرسبورغ» بكثير. كل ما قد يفعله الأتراك الآن ـ وقد لا يفعلون ـ محاولة استلحاق ربما بترتيبات المعادلة الإقليمية الجديدة، وبتداعيات ما بعد الانقلاب الفاشل وتدهور مشاعر التناغم الغربي مع تركيا. بوتين، مرة أخرى، يفرض معادلات جديدة، في لحظة إقليمية ودولية حساسة، بتعاون صريح، وقرار من أعلى هرم السلطة في إيران، أي المرشد الأعلى اية الله علي خامنئي.
سيرغي شويغو، حسين دهقان، وفهد جاسم الفريج، ثلاثي وزراء الدفاع الذي التقى في طهران قبل أكثر من شهرين، ولم يخرج الكثير عن مقرراتهم، ينفذون مقررات القيادة في موسكو وطهران ودمشق، وعبر الأمين العام لمجلس الأمن القومي الإيراني علي شمخاني، الذي تولى رسميا مهمة المنسّق الأعلى للشؤون السياسية والعسكرية والأمنية بين إيران وسوريا وروسيا بعد القمة العسكرية الثلاثية.
واشنطن تتململ من التعاون المفاجئ والمستجد بهذا المستوى بين العواصم الثلاث. وهي تقول الآن إنها ستعمل كل ما في وسعها لمنع نظام الرئيس السوري بشار الأسد من الانتصار. تصريح لروبرت مالي، منسّق البيت الأبيض لشؤون الشرق الأوسط وشمال إفريقيا والخليج، الذي يشغل أيضا منصب مساعد الرئيس الأميركي، لمجلة «فورين بوليسي» الأميركية، يختصر الكثير مما يجول في عقول الإدارة الأميركية، ويعكس الكثير من الالتباسات الأميركية القائمة لأغراض متعددة ومشبوهة إقليميا، ما بين محاولة تزعم «الحرب على الإرهاب»، ثم الامتعاض من أي سياق تعاون عسكري من جانب الدول الثلاث، بالإضافة إلى العراق.
والهاجس ليس إقليميا بالنسبة إلى الأميركيين وحلفائهم في المنطقة، اذ أنها أيضا المرة الأولى التي تستخدم فيها روسيا قواعد عسكرية خارج سوريا لتنفيذ مهمات وضربات جوية، الأمر الذي لا يمكن إدراجه سوى في خانة التطور الاستراتيجي الكبير للروس ويوطد إقدامهم في منطقة الشرق الأوسط.
وسرعان ما تجمعت العديد من الملاحظات والتساؤلات عن مغزى ونتائج الخطوة الروسية ـ الايرانية ـ السورية:
1 – اذا كان بإمكان القاذفات الإستراتيجية الروسية الانطلاق من قواعدها الطبيعية في روسيا، فلماذا اختارت موسكو وطهران تسهيل عملها من داخل الأراضي الإيرانية؟
2 – ما هي الرسالة السياسية التي تحملها «العاصفة» الروسية ـ الإيرانية لمن يهمه الأمر؟
3 – اختصار الفترة الزمنية التي تتطلبها القاذفات من أكثر من ساعتين، إلى نحو نصف ساعة، سيترك أثرا هائلا للضربات الجوية، لكن إلى أي مدى؟
4 – هل تمهّد مثل هذه الخطوة من جانب موسكو وطهران، إلى تعاون ما مع أنقرة بعدما المح مسؤول برلماني روسي بارز، إلى أن فكرة استخدام قاعدة انجيرليك من جانب الروس، قد تكون اختبارا مهما لتركيا حول مدى التزامها بالتعاون في مكافحة الإرهاب، بناء على تفاهمات بوتين ـ أردوغان الأخيرة؟
5 – التزامن في الإعلان عن تنفيذ ضربات جوية انطلاقا من إيران، مع بدء المناورات العسكرية الروسية قبالة السواحل السورية، والكلام الروسي عن حيوية توسيع قاعدة حميميم الجوية، قد يكون بالنسبة للبعض مجرد مصادفة، لكنه غالبا ليس كذلك، تماما كزيارة المسؤول العسكري الصيني إلى دمشق والإعلان عن خطوات للتعاون مع القوات المسلحة السورية.
6 – لم يتحدث احد في طهران او موسكو ودمشق عن «حلف»، لكن وقائع العمل العسكري هذه كلها تشير إلى مهمة منسقة على أعلى المستويات، من جوانبها العسكرية والسياسية والأمنية، والمالية أيضا، ولها أهدافها العسكرية المباشرة، التي اعلنها وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، قبل الضربات بيوم: منع انتصار الإرهاب الدولي في سوريا. وعلى هذا، تلتقي الدول الثلاث بالتأكيد.
وأكد رئيس الحكومة العراقية حيدر العبادي منح روسيا إذناً باستخدام مجال بلاده الجوي شرط أن تستخدم الطائرات ممرات على الحدود العراقية، وألا تحلّق فوق المدن العراقية، موضحاً أن «الإذن ذاته مُنح للقوات الجوية التابعة للتحالف الدولي» الذي تقوده الولايات المتحدة ضد تنظيم «داعش» والتي تقوم بعمليات في سوريا انطلاقاً من الكويت.
في هذه الأثناء، أكدت واشنطن انها أُعلمت بالضربات الجوية الروسية من إيران مسبقاً، فيما بحث وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف مع نظيره الأميركي جون كيري هاتفياً الأوضاع في حلب و «تنسيق الخطوات في التصدي للجماعات الارهابية في سوريا»، بحسب بيان للخارجية الروسية.
وإثر الإعلان الروسي عن اتصال بين لافروف ونظيره الاميركي جون كيري بشأن الاوضاع في حلب و»تنسيق الخطوات في التصدي للجماعات الارهابية في سوريا، اصدرت وزارة الخارجية الأميركية بياناً اعتبرت فيه ان الضربات الجوية الروسية من القاعدة الإيرانية «قد يكون مخالفاً لقرار مجلس الأمن الدولي 2231».
وقال المتحدث باسم الوزارة الاميركية مارك تونر إن هذا التطور «مؤسف لكنه غير مفاجئ»، مضيفاً أن واشنطن «لا تزال تُقّيم مدى التعاون الروسي الإيراني»، وإن «استخدام روسيا لقواعد إيرانية لن يمنع الولايات المتحدة بالضرورة من التوصل إلى اتفاق مع موسكو للتعاون في القتال ضد داعش»، لكنه أضاف إلا «أننا لم نصل بعد» إلى اتفاق بشأن التعاون، مشيراً إلى أن موسكو «تواصل ضرب فصائل المعارضة السورية المعتدلة».
واعلن مسؤول عسكري اميركي ان روسيا ابلغت مسبقاً «التحالف الدولي» ضد «داعش» بالضربات انطلاقاً من ايران. وقال المتحدث باسم «التحالف» من بغداد كريس غارفر»لقد ابلغونا انهم سيعبرون (منطقة يسيطر عليها التحالف)، وسعينا الى التأكد من امن الطلعات حين عبرت قاذفاتهم المنطقة متجهة الى اهدافها، وحين عادت»، مضيفاً ان «هذا الامر لم يؤثر على عمليات للتحالف جرت في الوقت ذاته في العراق وسوريا».
واعتبر غارفر ان «وجود الجهاديين يتركز خصوصاً في دير الزور، وليس في حلب او إدلب»! لافتاً إلى أن «عملية الابلاغ لم تسبق توجيه الضربات بوقت طويل، لكن ذلك افسح لنا وقتاً كافياً للتأكد من امن الطلعات».
روسيا تستخدم قاعدة إيرانية
وقالت وزارة الدفاع الروسية في بيان أمس إنه «في 16 آب، اقلعت قاذفات تي يو-22 ام 3 واس يو-34 مسلحة من مطار همدان في ايران، وقصفت اهدافاً للجماعتين الارهابيتين داعش وجبهة النصرة في مناطق حلب ودير الزور وادلب»، لافتة إلى أن هذه الضربات اتاحت تدمير «خمسة مخازن كبرى للأسلحة والذخائر ومعسكرات تدريب في دير الزور وسراقب في ريف ادلب والباب»، المدينة التي يسيطر عليها «داعش» في حلب.
واعتبر الامين العام لمجلس الامن القومي الايراني علي شمخاني ان موسكو وطهران «تتبادلان الامكانات والبنى التحتية في اطار مكافحة الارهاب»، مضيفاً ان « التعاون الإيراني ـ الروسي في محاربة الإرهاب في سوريا تعاونٌ استراتيجي، ونحن نشارك بإمكانياتنا ومنشآتنا في هذا المجال».
مناورات روسية
وكان الاسطول الروسي قد بدأ أمس الأول مناوراته العسكرية في البحر المتوسط، مستخدما بوارج مزودة صواريخ بعيدة المدى بهدف «مكافحة الارهاب»، بحسب ما اعلنت وزارة الدفاع الروسية.
شويغو: اقتراب من اتفاق مع الأميركيين في حلب
وكان شويغو أعلن أمس الأول أن موسكو وواشنطن «اقتربتا من اتفاق حول تعاون عسكري في مدينة حلب». وقال «اننا في مرحلة ناشطة جداً من المفاوضات..اننا نتقدم خطوة خطوة نحو ترتيب، ولا اتحدث هنا سوى عن حلب، يسمح لنا بإيجاد اهداف مشتركة، والبدء بالقتال سويا من اجل احلال السلام على هذه الارض التي تعاني منذ فترة طويلة».
لكن واشنطن امتنعت عن تأكيد مثل هذا التعاون. وقالت المتحدثة باسم الخارجية الأميركية اليزابيث ترودو «ليس لدينا اي شيء لإعلانه في الوقت الحاضر»، مكتفية بالقول «إننا نتحدث بانتظام مع مسؤولين رسميين روس حول سبل ترسيخ وقف الاعمال القتالية وتحسين وصول (المساعدات) الانسانية وتوفير الظروف الضرورية لحل سياسي للنزاع».
لافروف: المسلحون استغلوا الهدنة
وفيما كانت موسكو اعلنت منذ ايام عن هدنة لمدة ثلاث ساعات في حلب، قال لافروف أمس الأول إن المسلحين استغلوا اتفاقيات التهدئة المؤقتة السابقة في المدينة وحولها لإعادة تنظيم صفوفهم والحصول على أسلحة»، وذلك خلال مؤتمر صحافي عقده في مدينة إيكاترينبرغ الروسية مع نظيره الألماني فرانك فالتر شتاينماير.
وأشار الى أن الهدنة التي تم الاتفاق عليها مع الأميركيين في السابق لمدة 72 ساعة للتخفيف من الأزمة الإنسانية «كانت نتيجتها الأساسية دعم الإرهابيين بسبعة آلاف مسلح، عدا عن الاسلحة، لذا يجب الحذر والانتباه الى من ستصل المساعدات الانسانية وعدم السماح بمساندة التنظيمات الإرهابية بشكل مباشر أو غير مباشر».
وأكد الوزير الروسي أن بلاده «لن تسمح بانتصار الإرهاب الدولي في سوريا»، وأنها «تسعى لبدء الحوار السياسي بين جميع الأطراف».
وكان مساعد وزير الخارجية الروسية ميخائيل بوغدانوف قد زار طهران امس الأول، والتقى وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف ونائبه للشؤون العربیة والافریقیة حسین جابری انصاري الذي قال انه سیزور موسكو وأنقرة قريباً.
أنقرة والحل السوري
قال رئيس الوزراء التركي بن علي يلديريم، أمس، «ينبغي مشاركة جميع مواطني سوريا في تحديد مصير بلادهم، ولا يمكن فرض نظام لإدارة الدولة على أساس طائفي»، لافتاً إلى أن «لتركيا مسؤوليات تجاه المنطقة، وأنها ستعمل وفقاً لمتطلبات تلك المسؤوليات، واننا مثلماً قمنا بتطبيع العلاقات مع إسرائيل وروسيا وحل المشاكل معهما، فإننا سنحل المشاكل على صعيد سوريا والعراق».
وأوضح يلديريم أن لتركيا شرطين لحل المشاكل في سوريا، يتمثلان في احترام وحدة تراب تركيا، والحفاظ على وحدة الأراضي السورية.
البعث ميديا || صحيفة السفير اللبنانية