مساحة حرة

فعل القراءة.. لمن؟

قدمت مراكز الدراسات والبحوث العربية قبل غيرها، تقارير صادمة حقيقة عن الهوة الموجودة بين الكتاب والقارئ في عالمنا العربي، حيث أجمعت معظم هذه الدراسات والتقارير أن النسبة الأكبر من الشباب العربي لا يقرؤون وهم ورغم أنهم “أهل الكتاب” إلا أنهم صاروا من أبعد الناس عنه! وما فترة الانحطاط هذه التي تمر بها الأجيال العربية، إلا من صناعة هذا الجهل وأفعاله بمن لا يقرأون، وما يجري في وطن الكلمة من حروب ودمار، إلا نتيجة طبيعية لهذا السبب، الجهل، ولكن هل حقا أن أحد أبرز أسباب تراجع العرب أنهم لا يقرأون؟ كما يقول الذين يختزلون أسباب خيباتنا المتتالية إلى عدم القراءة أو قلَتها، ويردِدون عبارة: “أمة اقرأ لا تقرأ”.؟ وهل كل من يقرأ هو متنور بالضرورة؟ وهل فعلا القراءة يستحقها الجميع بنفس الدرجة؟ أليست القراءة اللاواعية، والتهافت عليها، وتحوّلها إلى “تقليعة”، سبب من أسباب زيادة الجهل والإرهاب، والصعود إلى الأسفل، والتقدم نحو الخلف.
قبل أن نجيب عن هذه التساؤلات، فلنسأل السؤال التالي بداية: من هم الذينَ يقرأون، ولماذا يقرأ كلٌ منهم؟
لدى المتابعة الحثيثة التي توفرها و-يا للسخرية-، وسائل التواصل الاجتماعي، تبين ما يلي:
-صنف يقرأ بدافع المتعة أو التسلية، معتقداً أن القراءة متعة بذاتها، لذا فإن قراءاته تنحصر فيما هو سائد، وما هو سائد بالضرورة مشكوك بأمره.
-صنف يقرأ لكي يُحصِّل ثقافة، أو لكي يُطلق عليه الناس لقب “مثقف”، وهنا يطرح السؤال التالي نفسه: منذ متى كانت الثقافة مختزلة بالقراءة فقط؟ فالثقافة تكوّنها عدة مصادر، منها: الهوية، اللغة، التاريخ، نمط الحياة والموقف من أحداثها، إلى جانب القراءة. وقد يقرأ من أجل المعرفة، لكن هل المعرفة بذاتها غاية؟ أليست وسيلة، أو أداة تتجاوز نفسها لتصل إلى شيء ما أكثر رحابة منها؟
-صنف يقرأ بدافع المصلحة، مثلاً: شاب يقرأ لإثارة إعجاب فتاة -“تطبيق البنات” بالعامية-فيقرأ كتباً في الاشتراكية مثلاً، فيظن أن فتاة ما أو مجموعة فتيات ستُعجب به لأنه بهذا الادعاء أصبح “جيفارا” (كما عادل إمام في فيلم “السفارة في العمارة). أو يقرأ الكتب السائدة في الشعر والنثر والرواية، ويبدأ يتفوه بطلاسم وشعوذات لا تنتمي بأي شكل إلى عالم الأدب والشعر! كل هذه المثابرة في القراءة، من أجل بث الإعجاب في قلوب الجنس الآخر!، ولا أدري ما الذي قد يجذب “بعض الإناث” إلى هذا النوع البائس من الذكور، ما المغري في الثقافة والشعر والسياسة وغيرها، وهي أشياء بذاتها لا قيمة حقيقية لها، إلا كوسائل وأدوات.
-صنف يقرأ وهوَ مؤمن بفكره ومتعصّب له، هذا كلما قرأ أكثر، كلما إزداء جهلاً وتشدداً. يقرأ في فكره فقط، لأنه يراه الحقيقة الخالصة، وقد أُحصي فيه كل شيء. وقد يقرأ في فكر غيره، لكي يثبت أن فكره سليم، وحتى لو قرأ ما ينسِفه بالحجة والبرهان، سيبقى مصراً على أنه الحق. و هذا أسوأهم وأخطرهم، إنه يقرأ لا ليتغيَر ويصل لشيء ما، بل لكي يؤكِد لنفسه ولغيره، أنه ليس بحاجة لنزع الغلاف عن مخّه الذي لم يستعمله منذ أن نُكِبَ العالم بقدومه إليه!
-وأخيراً صنف القراءة بتصوُرها ضرورة ملحّة، حاجة نابعة من القلق الوجودي العميق الذي يسكُن داخله، ومن ظمأه لكشف ما وراء الحجُبِ، ومن إدراكه أن المعرفة جزء من القوة، والقوَّة شرط رئيسي للنصر وفرض الذات في العالم المادي.
هذه الأصناف -ما عدا الأخير-لا يعوّل عليها، فالقراءة بذاتها ليست هدفاً، ولا متعة، ولا هي السبيل الوحيد للثقافة، وإن استخدمها المرء لمصلحة، فقد ابتُذلَت وفقدت غايتها. أما تلك المتقوقعة في ذاتها، فإنها لن تجلب إلا مزيداً من الجهل، والجهل يجلب مزيداً من الشر بالضرورة، وهذا يعيدنا للسؤال التالي: هل القراءة حق للجميع؟
بداية يمكننا التأكيد وفق كل النصوص الاجتماعية والفلسفية والدينية، أن البشر ليسوا سواسية تماماً، والمساواة التامة بينهم هراء لا سند له، العلم لا يعترف به، ولا حتى الدين الذي أقر بتفضيل بعض الناس على بعض “ُهَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ “. الناس متساوون في حقوقهم، لكنّهم ُتفاوتون في عقولهم، وفي درجات فهمهم وإدراكهم، وغالباً لا يكون لهم يد في ذلك، فمن كانت نسبة ذكائه متدنية جداً، وجيناته متهالكة هل ستنفع معه القراءة؟ لا، إنها ستزيده جهلاً وظلاماً، قد يقتل ويفجر بسبب كتاب قرأه –أو بسبب فهمه وتأويله له- وقد حدث ذلك، وأُولىَ مراحِل تحوُل الإنسان الطبيعي إلى إرهابي هي قراءته لكتاب صغير مثل”الجهاد: الفريضة الغائبة”.
“إرادة الإرهاب” التي تستوطن الوعي الجمعي العربي، يرجعها العديد من المتابعين، إلى تزايد الاهتمام بالقراءة من قبل من لم يقدروها حق قدرها، قراءة جاهلة، لا تبتغي الحقيقة ، قراءة ستفرخ المزيد من الخلايا الإرهابية النائمة، التي تتكاثر في مواقع التواصل الاجتماعي، وفي منابر إعلامية يمتزج فيها المال، بالنفط، بالثقافة الشعبية الممسوخة، بالليبرالية، بالإسلام السياسي وحتى الجهادي!
العلم ليس بالضرورة نور، والقراءة ليست دائماً للجميع. ومن الأفضل أن يبقى الجاهل جاهلاً، لكي ينعم في جهله، ويأمن الناس شره، لأن كتاباً في يد جاهل متعصب، لا يقل خطورة عن سكينٍ بيد “بلطجي” .
هذا كانَ ممكِناً فيما مضى، قبل فتوحات وغزوات التكنولوجيا التي كنا قبلها في “تيه وضلال”!.و اليوم، مع سيولة الأفكار ودفق المعلومات، بات هذا في حكم المستحيل، وطوفان الجهل والظلام والدم آت لا محالة إذا تمكنَ الذين لا يعلمون من الذين يعلمون!

تمّام علي بركات