ثقافة وفن

شيطان حزين في الحديقة

ليس من السهل الآن بعد أن صارت الكهرباء وكأنها أحد أحلامنا أو كوابيسنا لا أعرف، ليس من السهل التعرف إلى الأشخاص العابرين أو حتى الجالسين في مكان عام كحديقة أو ناصية شارع، حتى أنه صار من الشائع جدا أن يرتطم شخصان ببعضهما البعض رغم أن الطريق فارغ إلا منهما، ودون حتى اعتذار أو رفع قبعات كما يحصل في الأفلام، يمضيان هكذا.
لكنني رأيته! كان جالسا في زاوية الحديقة، على مقعد خشبي قشرت الأيام بمرورها المستمر الطلاء البني الغامق الذي طليت به أخشابه، لكنها لم تنل من صلابته ومتانة وقوفه.
كان جالسا يضع قدما فوق الأخرى ويدخن تبغا بغيض الرائحة، يرتدي ثيابا لم تبطل موضتها تماما، لكنها أيضا لم تعد رائجة كما كانت، سروال أسود من نوعية قماش جيدة، حيث بدت جلية آثار “الكوي” الطويل التي مرت على خيوطه فبهت لونها قليلا.
قميصه يتغير لونه باستمرار، ربما بسبب الظلال الوارفة التي جعلت من العسير تحديد اللون إن كان زيتيا فاتحا، أم رماديا مخضر، وسترة سوداء طويلة مقلمة بخيوط بيضاء وربما رمادية نحيلة.
بدا وجهه أليفا بملامحه البائسة، وشعر لحيته الذي لم يُحلق منذ مدة قصيرة لذا فهو يبرز بشكل خشن وغير متسق، وربما ساهمت بشكل قاطع حركات قدمه المهتزة فوق قدمه الأخرى مع حركة يده في محاولة لإشعال سيجارة بولاعة رديئة، بجعل الناس يتغاضون عن قرنيه الشاحبين وذيله الذي بدا وكأنه حمالة حقيبة متوسطة الحجم متروكة بإهمال تحت المقعد.
– معك قداحة لو سمحت؟
نظرت أليه وأنا أفكر، ماذا يفعل هذا هنا ؟
صرت أتحسس جيوبي وأنا أنظر أليه منتظرا جوابه.
– جئت أروح عن نفسي قليلا.
رميت له الولاعة في الهواء، فالتقطها بيده الجرداء وأظافره النافرة.
– ترفه عن نفسك !! ولم تجد مكانا أخر غير هذه الحديقة التي لم أزرها منذ أربعة أعوام، وعند ذهابي إليها حتى في وقت متأخر وطقس عاصف، لأحظى بحصة من السكينة، أراك هنا ؟؟!!
تابعت حديثي بانفعال: ألم تكتف بما فعلته حتى الآن ؟ ثم قل لي كيف هربت من قبضة جبران خليل جبران ومن الأخوة كارمازوف ومن جهنم نفسها وجئتن إلى هنا؟
وضع الولاعة على المقعد وانتبهت أنه لم يشعل سيجارته، وصل ألي كلامه بينما كتفاه يعلوان وينخفضان بتواتر مضطرب، كمن يمشي بساق مصابة.
– ربما أنا شيطان مكروه بل ومذموم عندكم انتم معشر بني البشر، ولكنني لم أصل أبدا إلى “الأبلسة” التي وصل أليها بعضكم ، أو كثير منكم .
– هل رأيتني قبلا آكل كبد رجل ميت؟ هل وصلك يوما أنني أعلق رؤوس الأطفال على حبال الغسيل وأتسلى ببقر بطون الحوامل؟ هل حقا سمعت عني يوما أنني أحب شارون وأتمناه جارا وصديقا؟ شارون يا رجل ؟؟ بالله عليك قل لي هل يتمنى حتى الشيطان أن يكون عرّاب “صبرا وشاتيلا” جاره ومعينه.
تابع حديثه وكلماته يحملها الهواء، بينما خيط دخان بدأ يخرج من سيجارته :
– أنا حزين وكئيب ومقهور، كيف وصل الحال ببعضكم أن يسمم مياه شرب أهله كما هو مفترض وأبناء بلده، قل لي هل سمعت عن شيطان فعلها قبل؟ صمت قليلا وهز ذيله بشيطنة مقهورة وقال: أنا حزين و أريد الرحيل عن هذه البلاد، لكنني أحبها ولا طاقة لي على فراقها، كيف لكم قلب أن تفعلوا بها ما فعلتم .؟؟ كيف قدرتم على كل هذا الكره؟
– لا تصدق ما يقوله أولئك البرابرة عني وما يحاولون إلصاقه بي، كنت ملاكا فيما سبق ، صرت مغرورا فطردت من الجنة ، لكني أبدا لم أوسوس لهؤلاء ليكونوا خونة ومعدومي الضمير.
قلت له وأنا أتحسس الولاعة في جيبي : هيه أنت، كيف أشعلت سيجارتك، تلفت إلي نصف التفاتة، ثم نفخ نارا من فمه وتلاشى.

تمّام علي بركات.