الاستانة.. هل يبنى وطن من صناديق الذخيرة؟
في الصورة بيت مصنوع من صناديق الذخيرة، يقال أن جندي في الجيش العربي السوري قد شيده بالقرب من أحد جبهات المواجهة مع الإرهاب.
تحفز الصورة أسئلة وأفكار عما يمكن صنعه من “تركة الحرب”، رغم ما قد يظنه البعض من أن “إرث الدم” هو كل ما تخلفه الحروب. لكن الصورة تختزل حقيقة المواجهة بين نزعتين وحقيقتين.. نزعة الإعمار والتحضّر الموروثة لدى السوريين من قرون، ونزعة التدمير التي لطالما طرأت عليها وهاجمتها بدوافع البداوة والتخلف والحقد.
نترك الصورة للقراء، ليفكر فيها كل على هواه وبحسب رؤاه أو بحسب الـ”دوغما” الخاصة به أو بها، لننتقل إلى ما يحدث في أستانة.. حيث يجتمع وفد الجمهورية العربية السورية مع ممثلين عن مجموعات مسلحة تقاتل الدولة السورية. اجتماع أستانة، ككل حدث من نوعه، أثار مواقف متناقضة ومتفاوتة، بين القبول أو الرفض.. أو “اللاموقف”، وكان “الرفض” ربما أقوى ردود الفعل مترافقا إلى حد ما مع “إدانة” ضمنية لقبول الدولة السورية الجلوس مع من سفك الدم السوري. الموقف ولا شك متشدد ويحمل الكثير من المبررات بعد كل ما جرى، لكن بقليل من التروي يمكن رؤية الأمر من منظور أوسع. “المنظور الأوسع” هو ما يحتاجه بالضرورة كل من يريد التعاطي مع شأن سياسي.
أول ما يمكن للمرء التفكير فيه، هو سياسة “المصالحات” وجدواها.. علما أن من نجلس في مقابلهم هناك في أستانة هم ذاتهم من نجلس معهم هنا داخل سورية في كل مكان تقريبا لـ”صياغة” مصالحة ما في كل منطقة يفتح فيها باب الحديث عن المصالحات.. ليس هناك فرق كبير في الحقيقة، طالما أن “المصالحات” هي إحدى أركان إستراتيجية الدولة السورية في التعامل مع الأزمة، ضمن رؤية تتعلق بسورية ما بعد الأزمة. المصالحات “توفر الدم” وتحفظ الفرصة التاريخية للإبقاء على وطن بذاكرة تتجاوز حدود الدم.
في السياق ذاته، قامت قناة الإخبارية سورية باستقصاء حول رأي أهالي الشهداء باجتماع الأستانة، ويمكن القول أن الخلاصة الأكبر لآرائهم هي “الأمل بوقف الحرب وعودة الاستقرار للبلد”.. ففي النهاية “المصالحات عم توفر دم شبابنا”. وليس هناك أحق من أهالي الشهداء بقول كلمة في هذا الشأن.. يساويهم في ذلك أهالي من لازالوا في صفوف الجيش يقاتلون دفاعا عن البلاد ومستقبل البلاد… هؤلاء هم “أولياء الدم” وأصحاب الحق… وأمام ما يقولونه يبدو كل موقف أو تحليل قاصر عن الوصول للحقيقة. لا يمكن لأحد أن يكون ضد حقن الدم السوري. وقد حسمت الدولة السورية أمرها منذ البداية: “سنشارك في كل اجتماع يمكن أن يساعد في إنهاء الأزمة وحقن الدماء”.
الأمر ليس استسلاما أو تهاونا مع التضحية التي قدمها الشهداء، وإنما تقديس لها عبر الاشتراك المباشر بالعمل للحفاظ على وطن قدم الشهداء دمهم لأجل بقائه.
في جنوب إفريقيا، وبعد حرب دموية شرسة، اعتمدت الدولة سياسة مصالحات تقوم في أحد أركانها على إجراء جلسات مباشرة ومغلقة بين أهل الضحية والقاتل.. فإن انتهت الجلسة بالصفح من قبل أهل الضحية يعفى عن القاتل.. وعادت جنوب إفريقيا دولة واحدة وحاضرة بقوة في التوازنات الدولية. في الجزائر، اعتمدت “المسامحة” كأحد أساليب إنهاء الحرب الإرهابية التي شنت على البلاد تحت مسميات “أهلية” أيضا.. وتجاوزت الجزائر الحرب وعادت أحد “مفاتيح” توازنات القوة في شمال إفريقيا وعمقها.
ليس في ما قيل أي تمجيد لاجتماع أستانة بحد ذاته، ولا جنيف ولا غيره من اللقاءات التي عقدت أو يمكن أن تعقد، وإنما هو تمجيد للوطن الأحق بالحياة. وبالعودة للصورة، هل يمكن إعادة بناء “وطن” من صناديق الذخيرة التي خلفتها الحرب؟ ربما.. يبدو في الأمر حلم قابل للتحقق بالإرادة فقط.
ريبال زينون