ثقافة وفن

سراديب النسيان

مدينةً ما.. دَخلَتها أرواحٌ تائهةٌ متعبةٌ وباحثةٌ عن مأوى .. يَتسولون السعادة الحب والاهتمام في أزقتها .. حيث جذبتهم الأنوار البراقة وشمعدان الأمان.. فبدأ سَيرهُم بِخُطىً خجولة نحو عالماً مُمتلئاً بالأزقة والدهاليز الضيقة وأحياناً الواسعة.. فتارةً يندهشون فيصمتون.. وتارةً يأمنون فيبُوحون أسرارهم في سِرها.. إلا أنها مدينة المتاهة بدايتها معروفة لكن مسار نهايتها مُبهم ..
كما أن هنالك دهاليز محكمة الإغلاق و من الوهلة الأولى تَعلم الأرواح بأنها مُحرمة الدخول .. إلا أن الأجساد محكومة بالوعي “العقل” الفضولي.. فَيَدخلونها لإشباع فضولهم أو لاكتشاف حياةً جديدة.. و لَربما لرغبتهم في تَنفس أرواحهم بعيداً عن المجتمع الذي لطالما كَبتَ على أنفاسَ أرواحهُم ..
أما أنا دَخلتُها غافية عن تفاصيلها وماهيتها.. و بِتُ شيئاً فَشيئاً أسترقُ النظر إلى دهاليز هذه المتاهة .. تَرددت خُطوات أصابعي و اشتدت رغبتي في الهرب.. إلا أن النور لازال يُخيم في عَيني.. أرى حداً فاصل و أفقً يلوح .. فَرغم ذلك كانت تشتد خطوات فضولي للبحث عن ذاتي التائهة.. ولربما أردتُ التعلم .. ولعل فضولي هو الحافز الأول للأستمرار هنا..
في هذه المدينة ارتديت جميع وجوهي.. أولها شخصية المراهقة التي سارت في زقاق الحب و اندمجت مع أطفالاً يداعبون و يراقصون العشق و الجوى ..محاولة لاسترجاع ما فاتني، وانتهيت بشخصية النضج في زقاق الأدب و الفلسفة .. فَجمعت بعضُ غنائم المعرفة الكونية الوجودية و أسراره الخفية.. اكتشفتها من خلال البوح وبعثرة أقلامي .. فلِبوح قيمةٌ.. هناك من يعرفهُا.. ولِسرد أسرار.. هناك من يَكتشِفها ويَغتني به.. ومن هذا أصبحتُ أقرب إلى نفسي أكثر مما مضى.. أجل أصبحت قوية الفكر والروح.. كما تَصالحت ذاتي مع روحي و جسدي مما مَكنني من أعادة ترميم ما كُسر بدواخلي..
وخلال هذه الرحلة أدركت دلالة الذات المُتأصلة بالأخر “أنت” عنواناً عريضاً مميزاً بالأصفر.. ففي هذه المدينة تزورُ الأرواح بعضها منعتقةً من المادية.. والإحساس بكل حالاتها النفسية و العقلية و الرقي في التعامل معها .. و هنا يَكمن معنى الجوهري للوجود .. بالإحساس الصادق البعيد كل البعد عن التكلف و العقائد .. و حرية التحليق في ردهةً خاصة .. هنا حياة أخرى غفلتُ عنها لِسنواتٍ طوال .. إلا أنها شيقةٌ بعد إدراكي لها .. كما وجدتُ أزقةً مظلمة للبعض لأنهم اندفعوا إليها بغرائزهم البدائية .. و مع ذلك هذه المدينة بمثابة النور الخافت الذي يُنير و يرافق دُروبنا .. و ما أن تخرج منها يتكون لديك رصيداً أختلف معناه لِيكون حقائقً و معلومات ليست بمادية .. و سيكون لديك رصيداً أخر من أرواح الأصدقاء الذين يتألمون و يضحكون معك .. والذين يتساءلون عن تفاصيل حياتك التافهة بكل ما أوتوا من اهتمام .. و ها أنت على الطريق الصحيح .. و كما تأكدت من أن وسادتي لم تحمل أسرار مَدمعي كما فعلت أرواحهم .. فرغم المسافات البعيدة تعانقت أرواحنا بالبوح .. أجل و هنا كنت في مكاني الصحيح ..
وهنا ندرك أن لكلٌ منا حياته الخاصة التي لا نُفصح عنها لأقرب المقربين.. فمنا من عاش حياة النضج و منا من عاشها بجنون الحرمان .. و مازالت النفس البشرية تواقة لكل جديد.. للشغف.. الحب.. الاهتمام.. التي غالباً ما نفتقدها في زحمة الحياة فبحثنا عنها في سراديب النسيان….
سَرقتنا هذه المدينة بجمالها وتنوعها.. سَرقتنا من الواقع لنجد أنفسنا في أزقتها تائهين تارةً ومتزنين تارةً أخرى.. وكيف لا وهي مدينتنا الافتراضية التي باتت تسيطر علينا بشكل أو بآخر.. تحت عناوين كثيرة وضعناها لأنفسنا، في هذه المدينة لكل منا زقاق يدخله خلسة ليكتشف ذاته من خلال الآخر..لندخل بصراع جديد مع ما نعيشه في هذه الأزقة وما نعيشه بواقعنا..لنستخلص عبرة ثمينة أن لا شيء يضاهي حياتنا الواقعية وانه من المستحيل ترجمة الكلام الافتراضي إلى واقع ملموس.. إقامة ممتعة أتمناها للجميع ..

ميرنا غالي

One thought on “سراديب النسيان

  • د. يعقوب صفر علي

    سراديب النسيان … ذهبت بذاكرتنا … الى دهاليز منيرة … اضافت لها ابعادآ … اكملت ما كان غير مكتمل من الصور و التصورات … ارجعتنا قسرآ الى الحالة التي نصبح فيها افضل ……. كل الشكر لهذه الكاتبة الرائعة ……….. د.يعقوب صفر علي

Comments are closed.