لوثة الاستسهال في الأدب والفن
أصاب الفن والأدب عموما، سواء محليا أم عربيا، لوثة الاستسهال، حيث صار الفن والأدب بأنواعه من المهن التي يسعى الكثر لامتهانها، واكتظت المنابر بالشعراء غير الشعراء، والقصة القصيرة ابتليت بهذا أيضا، وصار لها أنواع جديدة لم يسمع بها النقد الحديث ولا القديم حتى، بل أن إجماعا ضمينا ما عليها لا يوجد، لذا صار الفن بأنواعه والأدب بأنواعه أيضا، مخترقا من قبل من لا دراية لهم فعلية بما يفعلون، فها هو أحد “المتعمشقين” بحبال الفن والأدب، لا يعنيه سوء ما يقدم، ولا يعنيه أنه أخذ فرصة أحد أخر يستحقها بجدارة، لأنه فهلوي وماهر في العلاقات العامة، تلك التي تجري حينا من فوق وأحيانا من تحت، وعلى خشبة المسرح يقدم عرضا ن تأليفه و إخراجه، من المعيب فعلا وصفه بالعرض المسرحي، كونه جاء “كوكتيلا” بين مجموعة فنون لم يكن وجودها إلا عبئا على العمل، وتطفيشا لفنان جيد بسرقة مكانه الطبيعي، أيضا الشعر، ففي الوقت الذي ينكفئ أهم الشعراء عن إصدار مجموعات شعرية متزامنة وزمن صدور الكثير من الكتب الخالية من المعنى والشكل حتى، في هذا الوقت ممكن لشاب حربوق، أن يصدر عوض الديوان عشرة، لا تهم النوعية بل الكثرة التي ستوضع في “السي في” الذي ربما يحتاجه في حين قرر أن صبح من شعراء الغربة، كما حصل ويحصل مع العديد من هذه الكائنات العجيبة. ولكن هل كانت الحال دائما هكذا؟ أم أن ثمة ما تغير فكسر كل تلك المعايير الصارمة لشروط الفن والأدب، ربما، ولكن في التاريخ لدينا أمثلة مشرقة عن كيف يمكن أن تكون فنانا عظيما وشاعرا حقيقيا، وإليك القصة التالية التي جرت مع واحد من كبار شعراء الزمان.
نصح “الإمام علي بن أبي طالب” الفرزدق عندما بدأ الأخير نظم الشعر، بأن يحفظ القرآن الكريم ليطوّر لغته ومهارته الشعرية، فبقي الفرزدق ملازماً غرفته وقدمه مقيدة في عارضة السرير، لم يخرج منها حتى ختم القرآن عملاً بالنصيحة الذهبية التي تلقاها، وكلّنا يعلم قصة الشاعر العظيم “أبو النواس” والنصيحة التي قدّمها له “خلف الأحمر” عندما طلب إليه أن يحفظ ألف بيت من الشعر ثم ينساها قبل أن يبدأ بنظم القصائد، وكم كانت نتيجة هذه النصائح مدهشة، بالإرث الشعري البديع الذي تركه كل من الفرزدق وأبي نواس، فمَن في مثل هذا الزمن يستمع إلى النصيحة ويتقيّد بها قبل أن يخوض في تجربة الكتابة الشعرية؟ ومن بهذا الزمان يهنأ بشاعر؟ وخصوصاً بعد أن أصبح الجميع شعراء، ومن له “دعمة” إعلامية، صار نجماً لا يضاهى في سماء شعر البرامج الصباحية والترفيهية، ولا أحد غير الله يستطيع إقناعه بأنه ليس كذلك! وربما -أقول ربما- لم تعرف البشرية بتاريخها الطويل وفي معظم مراحل نهوض حضاراتها أو كبواتها، عدد شعراء أنتجه مجتمع واحد بظروف متشابهة كعدد الشعراء الذين انتجتهم الأزمة السورية بقصد أو من دونه، وهذه ظاهرة غريبة فعلاً، فلم يبقَ تقريباً إلا القليل من الذين قرأوا الشعر وأحبّوه، لم يجرّبوا عضلاتهم مع القصيدة “المفتوحة”، ليتحوّلوا إلى شعراء لا يشقّ لهم غبار، هكذا بين ليلة وضحاها، كما حدث ويحدث في تلك الزوايا الشعرية، التي تبحث لنفسها ولروّادها عن منفرج من ثقل الألم وسطوته كما يخبر القائمون عليها!، لتأتي الغرائبية والعجائبية وتكسير كل الشروط الفنية الخاصة بالشعر، سمة مميزة لعموم “شعراء المرحلة” الذين صاروا “أكثر من الهم على القلب” كما يقال، وخروج عن كل ما هو قانون أصيل في الفن، بحجة الحداثة والشعر الجديد المنفلت من كل قيد، ليصبح أي كلام يهذرون به، بمنزلة قصيدة، تتلى في هذا المنبر وعلى تلك الشاشة دون أي شعور بحجم الكارثة! حتى صار الشعراء هم السواد الأعظم من المجتمع السوري، والقراء أو المستمعون أو الحضور هم القلة التي تتهافت تلك المنابر بشدّة على اجتذابها لحاناتها الشعرية، التي وصل ثمن كأس الشراب فيها إلى أكثر من 2000 ليرة سورية وأحياناً حسب الزبون ومظهره الذي يدل على حاله.
الشعراء أيضاً وعلى الرغم من كونهم الفرجة التي سيدوخ الحضور من قصائدها الغرائبية سيكونون أيضاً شعراء وروّاداً في الوقت عينه، سيشترون كؤوسهم ويلقون قصائدهم ليخرجوا كما دخلوا، ليس كما دخلوا تماماً، ففضلاً عن الثمن المرتفع للكأس الشعري الذي تجرّعوه وجرّعوه للحضور، سيرافق كلاً منهم حلم صغير بأنه شاعر لا يشقّ له غبار.
كانت القبائل بل حتى المدن العربية، يهنّئ بعضها بعضاً إذا حدث وظهر في أحدها شاعر، فالشاعر كان بمنزلة وزير خارجية قبيلته، ممجّداً أمجادها ومهدّداً أعداءها ومنشداً أخبارها، الآن مَن يهنّئ مَن؟ ومَن يعترف بمن؟ الجميع شعراء والجميع لا يقبلون النقد ولا النصيحة، الجميع نصوصهم مقدّسة ونجوم و ”أعلى ما بخيل النقاد فليكتبوه”، فهذا آخر هموم شعراء هذا الزمن وفنانوه الكبار، الكبار جدا كأورام متضخمة!.
تمّام علي بركات