ثقافة وفن

فيروز..نجمة صباحنا العالية

وكأن الحديث عنها لا يشبه حتى نفسه في كل مرة نأتي على ذكرها، فهي السيدة والجوهرة والزنبقة والنجمة والملاك والأم والحبيبة، إنها بصوتها وأغانيها وجدان كل امرأة وضمير قلبها الذي تشعله “نهاد حداد” بصوتها وبأغانيها المختارة بعناية، والتي تبدو للوهلة الأولى وكأن كلماتها تشبه كلمات الرسائل التي ترسلها مراهقة لحبيبها ” حبيتك لنسيت النوم، سألوني الناس عنك يا حبيبي، كيفك أنت، زعلي طول أنا وياك” وغيرها من الأغاني التي صارت من مفردات الصباح المحلي والعربي الذي قدرت فيروز على توحيد ذوقه الفني بخصوصها، فيما لم تستطع السياسات العربية فعل هذا، فكما هو معروف وشائع، الصباح في العالم العربي، وحتى في العالم الغربي الذي يحيا به الكثر من العرب، لا تتم أركانه إلا بركوة القهوة ورائحتها وصوت فيروز يصدح من الراديو كأنه آت من عوالم قصية حتى على الخيال.

فما من مرة حضر ذكر هذه السيدة العذبة كنبع، إلا وصار العالم أكثر لطفا وألفة، وهكذا كان الطريق الذي بدأ منذ 81 عاماً تماماً، حيث تغيّر وجه الأغنية السورية مرة واحدة وإلى الأبد، بعد أن بشّرت السيدة العذراء شفيعة القلوب واحدة من الأمهات العظام، بأن الروح التي تستأجر رحمها بعقد رحماني، سيكون لها من الله والناس والطبيعة، نصيب عظيم من محبة، نادراً ما اجتمعت كلها في إنسان، السيدة “ليزا البستاني” كانت تحمل في رحمها ضوءاً من شغف وتوق ومحبة، تجسّد على شكل طفلة بالغة الرقة، شاحبة الوجه، عذبة القسمات، جاءت إلى الحياة بأنفاس ضعيفة بداية، ما لبثت أن استقام مقام وجدها، حتى صارت تلك الأنفاس، أشهر ليس من نار على علم فقط، بل أشهر من ذكرى مرور نيزك في ليل سماء صافية، أو حدث خارق للطبيعة، مرّ بها فغيّرها، وصار واحداً من معالمها. فيروز حبيبتنا وصديقتنا جميعاً، على اختلاف ألواننا وطبائعنا وأمزجتنا، استطاعت هذه السيدة المرمرية، أن توقد في القلوب جذوة من نور، لم ولن تخفت بوارقها، مهما مرّ الزمان فينا وعبرنا ونسينا، ولعمري سيبقى عصياً على التاريخ ولو تم محوه بقيامة سريعة، أن يقدر على تجاوز عتبة صوتها الخافتة، تلك التي ستبقى ما دام الله والفرح والخير والمحبة، باقية.

“فيروز” هي الطفلة الأولى لأسرة بسيطة كانت تسكن في زقاق البلاط في الحي القديم القريب من بيروت، حيث كان الجيران يتشاركون مع أمها أدوات المطبخ في ذلك البيت المؤلف من غرفة واحدة، أما الأب الهادئ الطباع ذو الخلق الرفيع فكان يعمل في مطبعة تسمّى “لي جور”. كانت فيروز تحب الغناء منذ صغرها، إلا أن الأسرة لم تكن تستطيع شراء جهاز راديو فكانت تجلس إلى شباك البيت لتسمع صوته السحري قادماً من بعيد حاملاً أصوات أم كلثوم، ومحمد عبد الوهاب، وأسمهان، وآخرين، شغفها حبّهم مرة، فشغفهم حبها أبداً. وفي حفلة المدرسة التي أقيمت عام 1946 أعلن الأستاذ محمد فليفل عن اكتشافه الجديد، وهو صوت فيروز. رفض الأب المحافظ “وديع حداد” فكرة الأستاذ فليفل بأن تغنّي ابنته أمام العامة، لكن الأخير نجح في إقناعه بعد أن أكد له أنها لن تغني سوى الأغاني الوطنية، فوافق الأب مشترطاً أن يرافقها أخوها جوزيف في أثناء دراستها في المعهد الوطني للموسيقى الذي كان يرأسه وديع صبرة مؤلف الموسيقى الوطنية اللبنانية. وانضمت فيروز إلى فرقة الإذاعة الوطنية اللبنانية بعد دخولها المعهد بأشهر قليلة.

“من يوم اللي تكوّن يا وطني الموج كنا سوى” كم يليق هذا الكلام البديع بأم زياد، الرسولة بشعرها حتى الينابيع، ففيها قيلت الأشعار وعنها نسجت الحكايات، وحول نار صوتها تهافتت فراشات القلوب، فصارت أيقونة يفنى الزمان ولا تغيب ذكراها..

تمّام علي بركات