تغييب المعنى الصهيوني لداعش
لم تكن الكتابات التي أكّدت في القرن الماضي أوجه الشبه والصلة بين نشوء الولايات المتحدة الأمريكية ونشوء الكيان الصهيوني قليلةً ولا باهتةً، فقد أوضحت تلك الكتابات والأبحاث «المعنى الأمريكي لإسرائيل» من حيث قيامهما على الاستيطان والاحتلال وقتل السكان الأصليين، والتشبّع بالفكر «الإبادي». إلا أنّ هذه الأفكار والمؤلّفات تمّت محاصرتها ومصادرتها وملاحقة أصحابها ثقافياً وقانونياً.
اليوم يَطيب للغرب وللرجعية العربية وللصهاينة ومعهم أنصار الإسلام السياسيّ ألّا يفكّر أحدٌ ولا يتحدّث ولا يكتب عن الصلات الاستراتيجيّة والبنيويّة بين إرهاب الصهيونيّة وإرهاب التطرّف والتكفير. فكلا الإرهابَين دموي وعابر واستيطاني في آن واحد، وكلاهما إباديّ وإقصائيّ ووحشيّ، يعادي الوطنيّة والعروبيّة والإسلام التاريخيّ المحمديّ المستنير النهضوي، ويعادي في الوقت نفسه المقاومة الوطنيّة والمقاومة الإسلاميّة. وكلاهما يرى في عواصم الرجعيّة العربيّة والأطلسيّة مدَدَاً وعوناً وأملاً مشتركاً في نسف المشروع الوطنيّ والقوميّ العربيّ.
فمنذ عقود طرحت التنظيمات التكفيرية المتطرّفة بجذورها الوهابيّة والإخونجيّة عدّة طروحات لمواجهة التيارات الوطنيّة والعروبيّة مواجهةً تخدم بالمحصّلة المشروع الصهيوني، وكان من أبرز هذه الطروحات التي تبنّتها تلك التنظيمات نظريتان.
الأولى: نظرية «العدوّ القريب والعدوّ البعيد» التي حشدت لها تلك التنظيمات مزيداً من السجال النظريّ والعملياتيّ إلى حدّ الاضطراب بين بن لادن والظواهري، بين الجولاني والبغدادي.. وتتلخّص بأنّ العدوَ القريب هو في الوطن ومجتمعه وحكّامه حيث أولوية الجهاد، أمّا العدوّ البعيد فهو الغرب، وبالتالي فالعدوّ القريب هو أَولَى بالجهاد من العدوّ البعيد. وليست الصهيونيّة أبداً هنا لا بالقريب ولا بالبعيد. ففور وصول الإخوان إلى حكم مصر خاطب مرسي بيريز برسالته الشهيرة: عزيزي السيد.. متمنياً لشخصكم الكريم ولدولتكم أطيب الأمنيات. وليس أردوغان وبقية الإخونجية بأفضل من مرسي.
الثانية: نظرية «إدارة التوحّش» وجاءت مكمّلةً لسابقتها وتطويراً خطيراً لها، واستكمالاً لمشروع رايس في «الفوضى الخلّاقة»، ومشروع بيريز في «الشرق الأوسط الجديد». ونظريّة «إدارة التوحّش» هي عنوان كتاب لمؤلّف قد يكون اسمه مستعاراً، وهي دستور داعش وأخواته وجذوره وفروعه في إرهاب الشعوب ولاسيّما العربيّة والإسلاميّة المرشّحة أوّلاً للاستهداف. وترى النظريّة أنّ قتال هذا العدو «القريب» حالة ضرورية بعد بناء «المجتمع المقاتل» الذي يكون الجهاد فيه شدّةً وغلظةً وإرهاباً وتشريداً وإثخاناً… حتى يحدث الدمار و«الفوضى»، فيقوم هذا المجتمع بضمان أمن «منطقة التوحّش» تلك المنطقة التي لا يكون أمام قاطنيها خيار سوى الانضمام إليها والاندماج فيها أو أن يتم قتلهم، على غرار ما يفعل الإرهابيون اليوم في مناطق سيطرتهم بجماهير شعبنا.
في هذا السياق يذهب التفكير إلى التماهي بين تلك التنظيمات الجهاديّة والصهيونيّة والغرب في العداء للأوطان وللأمّتين العربيّة والإسلاميّة، وخصوصاً للقضيّة المركزيّة «فلسطين» التي يجب القفز فوقها انتقالاً لحروب أخرى عربيّة عربيّة، وإسلاميّة إسلاميّة.
وعلى هذا الأساس يتلاقى الصهاينة وداعش، ومعهما أغلب أطياف المعارضة التي تستثمر بالانتظار والأمل بالسلفيّة الجهاديّة، يتلاقون في اتهام محور المقاومة في سورية ولبنان وفلسطين والعراق وإيران بأنّه ميليشيا طائفية، بينما داعش وأخواته مجموعات وطنيّة وعروبيّة وإسلاميّة!!؟. إنّها لمهزلة أن تكون مقاومة الإرهابَين الصهيوني والتكفيري إنجازاً ميليشياوياً طائفياً، ويكون الإرهابان مشروعاً منشوداً للاستقرار في المنطقة بعد الفوضى وإدارة التوحّش.
وعلى وقع الصمود العربي السوري شعباً وجيشاً وقيادة تشتعل في هذه الأيام مراكز الأبحاث وصنع القرار الصهيونية قلقاً ورعباً، ومعها كذلك داعش وأخوته والداعمون، فنقرأ بالأمس في تلك المراكز أبحاثاً تبيّن كيف أن «بقاء داعش يخدم المصالح الاستراتيجية لإسرائيل لأنه عدو لأعداء الصهيونية ولاسيما روسيا ومحور المقاومة، فالمجانين الاستراتيجيون في الولايات المتحدة هم فقط من يعتبرون أن القضاء على داعش أمر إيجابي».
وماذا بإمكان أمريكا ترامب أن تفعل، وعجز ترامب واضطرابه ليس إلا الصورة النمطيّة السائدة عن عجز الولايات المتحدة وخذلانها، إدارةً ومؤسساتٍ، داخلياً وفي هذه المنطقة والعالم؟.
لم تعد أمنيات الصهاينة مجدية في أن يكون سياج كيانهم من العصابات التكفيرية. فقد ولّى هذا الزمن إلى غير رجعة، وليس القلق وحده بانتظار الإرهاب الصهيوني والتكفيري.
ويبدو أن استراتيجيّة «الباصات الخضر» ستغدو أبعد من محلّية، وأجدى من أستانا وجنيف.
د. عبد اللطيف عمران