ثقافة وفن

ما بعد حداثَوِيَّات تفكيكيَّة: بين الفلسفة والأدب

1

بعضُهم يعبّر عن طموحِ المنظِرين المعاصرين للتفكيكية (ديكونْسْتْروكْتيفيزْم) الأدبية إلى تمتين الصِّلات بين الفلسفة والنَقْد الأدبي، ومنهم ريتْشارد شوسْترمان مِن جامعة تيمبيلالأميريكية [1]. ومثالاً على ذلك يجري تقديم سطور مِن بَيانالتفكيكيِّين، الذي يؤكِّد فيه جيفّري هارتْمان (مِن «مدرسة ييْل») أن تحديد الفواصل بين الاختصاصَين ليس في صالحِهما معاً، ومن الطبيعي الافتراض أن أرضيةَ التوحيد بينهما يجب أن تكون الجماليّات (إيستيتيكا) تحديداً باعتبارِها فلسفة الفن والنَقْد الفنّي. وفي واقع الحال فإن التفكيكيِّينالأنْغلوأميريكيّين يتجاهلون علم الجمال (الإيستيتيك) بالإجمال وخصوصاً الجماليات التحليليّة، مع أنهم يُبدون في الوقت ذاتِه إعجابَهم بالتحليليّين المنْهمِكين بدراسة مشكلات فلسفة اللغة، والتفكير، والايبيسْتيمولوجيا، مِن أين تنبع هذه المواقف المتناقضة؟ – مِن نقطةِ الانطلاق التي هي علم الجمال الوضْعي (الإيستيتيكا الوضْعية) عندَ ي. تين وأفكارِه حول السببيَّة وتحتيم الإبداعيّات وَ «التَفسير الترْموديناميكي للفنّ». ويرصد شوسْترمان التشابُهات بين الاستجابة لهذه النظرية من الربع الأخير في القرن العشرين، وبين ظهور أفكار التفكيكية وما فيها من مفاهيم «الرسالة غير التفاضلية»و«النصّ العامّ». وكان مِن ألدّ أعداء. تين كلٌّ من أُ. وايلد، وَ س. ملارميمترئِّسَيّ حركة رفْض المعالجات والتأويلات العلْمية للفنّ والتأكيد على فكْرة «سر الإبداع». ولقيتْ آراء كهذه معالجةً كاملة تامة في نظرية ب. كْروتْشي، وهو الذي تولّى موقع الريادة في جماليات (إيْستيتيكا) بداية القرن العشرين، مثلما قام بالدور ذاتِه ريادياً نهايةَ القرن ج. ديريدا في النظرية الأدبية. وشكلَّت فلسفة كروتشي مقْطعاً لِما أورده ديريدا لاحقاً مِن تصوُّرات حول «النصيِّة» (تيكْسْتواليتي).

وثمةَ تنويهات إلى ما يجمع ويقارب بين آراء كْروتْشي ونظرية التفكيكيّين  مِن مواقع ولحظات، وهي لا تخلو من الغرابة والفظاعة معاً، لكننا سنقدمها كما هي للتعريف باتجاهات قد نرفضها أو نستهجنُها لكنها قائمة ومؤثِرة في الغرب:

إن أسس الانطلاق التوافقية المشتركة هي: معاداة الواقعية (أنْتيريياليزْم)، وَرفض الاعتراف بأي واقع خارجي في العلاقة مع اللغة، أو أيّ تناسُب بينهما بمنظور الدقة التمثيلية. وكلٌّ مِن كرْوتْشيوَديريدا متقاربان في فهم العالم كبنية لِسانيّة وقْتية. وحسب كروتْشي فإن الحدس خاص باللغة وبالتالي فإن واقع الموجودات هو لغة، ومثله يُعبّر ديريدا مؤكِّداً أن الواقع هو مجرد «ناتج انتظامي للاختلافات اللسانية… ولعبة التنوُّعات التي تبْني أوَّلياً ما نعتبره عالماً»، ومِن ثم النتيجة التي مفادُها أن «لا شيء خلفَ – أو خارجَ – حدود النصّ».

إنَّ شوسْترمان، إذ يعترف ببعض الاختلافات بين نظريَّتي كروتْشيوَديريدا، يلحظ تناظراً وتماثلاً ثنائياً في علاقتين متباينتين موضوعاً وزمناً هما أنَّ: التفكيكية في طروحات ديريدا و«مدرسة ييل»تنتسبإلى البنْيوية (ستْروكْتوراليزْم) الفرنسية والنقد الجديد تماماً مثلما انتسبت جماليّات كروتْشيإلى جماليّات وضْعية (بوزيتيفيزْم) «تين»وإلى التحليل البلاغي الكلاسيكي – (معنى كلمة تنتسب هنا ليس الوقوف في الصف نفسِه بل وجود علاقة تناسُب – وهو تناقضيّ – وفي قران من نوع: هذه كتلك) –.إنّ بعض ممثلي الجماليّات التحليلية (مثل م. بيردْسْلي) انتقدوا كروتْشي باضطراد، وهذا أحد أسباب تجاهُل وإهمال الجماليات التحليلية المعاصرة من جهة التفكيكيِّين. ولم يكتفِ التحليليون بنقد نظرية كروتشي بل وقدَّموا بجرأة تصورهم حول مادة/ موضوع الإيستيتيكا (الجماليّات)، وتركَّز انتقادهم لِكْروتْشي على الامتناع – (امتناعِهِ) – عن إقرار الجوهر الأُونْطولوجي (الوجودي) للمقولات وعلى الإرجاع التبسيطي «للاختلافات» بين الأنواع أو الأشكال المتباينة للنشاط الروحي. وفي صلةٍ بهذا كلِّه يقوم المؤلِّف شوسْترمان بالتذكير بِـ ج. باسومور الذي سبق أن عبَّر عن تحبيذات لتحويل اختصاص الجماليات (إيْستيتيكا) الفلسفي الموحد إلى سلسلة نظريَّات: نظرية الموسيقى، ونظرية الأدب، ونظرية الرقْص… إلخ. ومشروع كهذا لقي اهتماماً وتطويراً على أيدي وبجهود اثنين من التحليليِّين الروَّاد في الخمسينيّات والستّينيّات هما: مونْرو بيرْدْسلي، وموريس فيتْص، اللذان يقوم بتحليل أعمالِهما، كممثِّلين للتقليد التحليلي، المؤلف شوسْترمان مفترضاً أن الإيستيتيكا (الجماليات) تحصّل بذلك مع الاتجاه المذكور آفاقاً هامَّة واعدة. وهنا تذكير آخر بخطوات أكثر تطرفاً وحزْماً راديكالياً حضرت وقتاً ما وذهبتْ أبعد مما ذُكِر للتوّ: إنها سيناريوهات واحتمالات ظهرت مع بروز آفاق نهاية الجماليات (إيستيتيكا) أصْلاً حين بدت الأكثر وضوحاً حيناً ما. ويُعالج شوسْترمان تقويميّاً بعض النظريات الجديدة التي حاول بعضهم بمساعدتها إحياء وبعث العلم، ومنهم ج. ديكي، وَ آ.دانْتو، منوِّهاً إلى «البؤْس والافتقار إلى قوة البرهان في مقارباتِهما النظرية ذاتها». والخلاصة أنَّ فلسفة الفن تبحث الآن عن الاندماج والتوحيد مع نظرية الأدب لتضييق وحصر تركيز اهتماماتِها. ومن جهتها الأُخرى تبحث النظرية الأدبية عن تواصلات مع الفلسفة لتوسيع أريحيَّتِها وخوضِها في إشكاليّة اللغة والتفكير. ونظراً لتواتُر ذكْر كروتي وتميُّز الاهتمام به هنا فسنقدِم نبذةً عنه بعد قليل.

2

س. رافال من جامعة أريزونا الأميريكية يعالج بدورِه الروابط الجامعة بين الفلسفة والأدب محلِّلاً أسباب أزمة النظرية الأدبية المعاصرة [2]. لقد فقد النَقد الأدبي خصوصيَّتَه وأصالتَه كاختصاص مستقِلّ متميّز ذي دارة محدَّدة من الاهتمامات، وكمجموعة محترمَة وحسَنة التأسيس من الوضعيّات حول الأدب وتاريخِه. إنَّ قلق ممثلي العلم على الأدب له أسُسه ومبرراتُه لأن سائر الوضعيّات، فعلياً، المعتَبرة إلى عهدٍ قريب واضحة، صارت الآن قيد التساؤل. هيرْمينيتيكا عدم الثقة تحْرز نصرَها في حقوق الاستراتيجية التأويلية [الهيرمينيتيكا أوْ الهيرمينيطيقا هي ما نعتبرها علم التأويل أوْ ما سمَّيناها: التأويلية اختصاراً –د.م.ن].

واللاتحتيم الجذري للمعاني يسحب الثِقَة من الايبيسْتيمولوجيا التقليدية الكلاسيكية التي طالما أكَّدتْ موضوعية المعنى والنصّ (تيكسْتْ) والسِياق (كوْنْتيكْسْتْ). وبات محسوساً أكثر تأثيرُ نمط آخر من النقد المُثار من الاهتمام المعاصر بلا تحتيميَّة الدّلالات والمعاني. ويُقرّر رافال ما يلي: «في الصيغة الجَذرية وغير المهادِنة أطروحةُ عدم الحتمية (إيْنْديتيرمينيزْم) قدَّمتْها التفكيكية (ديكونْسْتروكْتوفيزم) بطريقةٍ لافتة جعلت سائر الحركات النقدية الحداثيِّة – من النقد الجديد / الحديث إلى النقد الفينومينولوجي (أيْ الظواهِري/الظاهِراتي/ علم الظاهِري…)، وتحليل النَفْسي، والبنْيوي، والماركسي – قيد التساؤل». وقام ج. هارتْمان بتقديم وضْعيّات مغَشّاة وغير واضحة لِتَمييز الحدود الفاصلة بين الأدب والنَقد في البداية، أما تالياً فيما بَعد فقد جرى إلغاء هذه الحدود كلِّياً. يؤكِّد س. رافال أنَّه من غير تمييز خصوصية الأدب والنَّقد يستحيل تحديد أو تعريف مفهوم/نظرية الفن كما مفهوم ومهمَّات النَقْد، وهو يلفت الانتباه إلى عدم كفاية المعالجة لمفهوم النَقد باعتباره نشاطاً مؤسَّسيَّاً، مما يستدعي رفْع الاهتمام بمسائل الإيبيستيمولوجيا: «اتَّخذت الإيْبيسْتيمولوجيا الكلاسيكية التقليدية العقْلَ أساساً للنَشاط الفكْري، أما الآن فإن النظرية الجذرية تعتبر اللامعقولية واللاسببيَّة أساسَ استراتيجيَّتِها».

إنَّ الصِدام بين التفكيكية والنظريات المعاصرة الأُخرى يَؤول إلى مسألة الدلالة والمعنى كما تجري مناقشتُها في الأشكال المختلفة من المعرفة الفلسفية. وعلى سبيل المثال يُجسّد التفكير التاريخي لدى غادامير– [وهو مِن روّاد التأويليَّة كما نعرف –د.م.ن] – ويُري مَخْرَجاً من النفق المسدود أو من المتاهة حسب فهمْ التعارُض الفلسفي الأورتودوكْسالي بين تحتُّمية ولا تحتُّمية المعاني. غادامير يصف مفهوم المعنى بأنه تاريخي ومعتمِد على الظروف ولذا فهو متغيِّر وبالتالي يوضح أن المعاني الأدبية هي نِتاجاتُ تفاعلاتٍ ثقافية معقَّدة «لِآفاقٍ تاريخية».

وتؤكِّد ا لفلسفة المعاصرة للعلم عند ت. كُوْن وَ ب. فييرابينْد أن النظرية والتاريخ هما عنصران بنائِيّان هامّان للبحث العلْمي. وليس ثمة صيغة مفهومية/ نظيرية أو اختصاصية تجعل النقدَ قادراً بمساعدتها على وضع طرائقِه وأساليبه ونظريته مرة واحدة وإلى الأبد، فالنقّاد والمنظِّرون لا يستطيعون تحاشي البُنى النظرية المُتاحة التي يمكن بمعونتِها تحديد طبيعة ووظائف كلٍ من الأدب والنَقد الأدبي مصطلحيّاً (تيرمينولوجيّاً). إن الاعتراف بهذه الواقعة يسهّل على النقاد والمنظِرين المشاركة في الحوار الذي بفضله يمكن صياغة مشكلات مثيرة وحداثية نسبيَّاً في سياقِنا الثقافي الراهن. من المهمّ تَوعّي أسباب وعمق الأسُس في الأزمة المعاصرة للنقْد؛ ويرى س. رافال عدم انتظار المعجزات من الفلسفة ولا من نظرية الأدب أو الثقافة، ولذا تُطرح فكرة النقد الثقافي المتميّز الذي تلزم صياغتُه مع حسبان الظروف التاريخية المعاصرة الخاصة. وبما أن الأصولية (فونْدامينْتَاليزْم) والأبحاث الايبيستيمولوجية في الأسُس…إلخ تفقد قوتَها، فمن الضروري فهمْ كيف يجب أن يكون النقد الكولْتورولوجي/الكَلْتْشَرولوجي (أي علْم الثقافي وليس الثقافي فقط) ممّا يلزم تطويرُه للتوّ في المنظور الأقرب.

3

حول جَماليات بندتوكروتشي وبعض فلسفتِه الفنيّة

نظراً للاهتمام الواضح بآراء كْروتشي الجمالية آنفاً ومقارنتِها بغيرها ممَّا عاصرَها ثم ما عاصرَنا على السواء، على الرغم من مرور حوالي قرنٍ عليها، فإننا سنعود إلى أوراقِنا ويوميَّاتِنا المدوَّنة حول فلسفتِه منذ نصف قرن ويزيد (أواسط الستينيّات) والتي نشرناها مؤخَّراً مع تعليقات وتقويمات حديثة (أو حداثوية) قمنا بها باقتضاب، لذا سنوثّق تنصيصاً ما ورد لديه ثم ما أوردناه تقويماً ضمن أقواس كبيرة، تماماً كما هو منشور في آخر كتبنا: «من دفاتر الستّينيّات… أوارق فلسفية “حوليّات”»، وذلك ضمن عنوان: «ط – حول بنَدتوكروتشي فلسفة الروح» (ص197-198من الكتاب)[3]، وهنا أَنتولوجيْانا (مقْتَطفاتُنا): يطرح كروتْشي التساؤل: ما هو الجمال؟ ثم يبدأ الإجابات، ونبدأ نحن ملاحظاتِنا وتقويماتِنا للآراء الواردة ثمة: – إنَّ أصل الفن يكمن في القدرة على تكوين الصور الذهنية [رؤية جميلة في فلسفة الفن: تكوين الصورة، ونحن الآن نعيش عصر الصورة وأهميّتها ومحوريتَها. –د.م.ن]. – ميخائيل أنجلو: «إن الإنسان لا يرسم بيده بل برأسِه» [تصوُّر متقدم لحقيقة وواقع الفن والتشكيل. –د.م.ن]. –الجمال هو التكوين العقلي للصورة الذهنية أو لسلسلة من الصور، ويبدو فيها جوهر الشيء المدرَك، والجَمالُ تعبير [تتكثَّف نظرة كروتشيإلى الجَمال والفن في تكوين الصورة الذهنية عقلياً، وليس أي صورة، بل الصورة التي تمثل الأشياء جوهرياً إدراكياً (وتنفذ إلى جوهر الأشياء): الكلّي في الجزْئي المجسَّد، أو العام في الخاص، كما وجدنا عند سابقين. – د. م.ن]. وأخيراً أختتم الآن أن جماليات كروتشي وفلسفته الفنية مكوِّنٌ هام تماماً من فلسفتِه الإجمالية، فلا عَجب في اختيارِه والتركيز عليه هنا مما فعل مؤلِّفواومنظروا العلاقة بين الفلسفة والأدب آنفاً ولدينا أيضاً.

م.ع.ن12/5/2017

[1] SHUSTERMAN R. Analitic aesthetics, literary theory and deconstruction //Monist. La Salle (III.). 1986….

[2] RAVAL S. Philosophy and the crisis of contemporary literary theory //monist.-la Salle (III.), 1986….

[3] من دفاتر الستّينيّات… أوراق فلسفية «حوليّات»، دمشق، 2013، دار العراب/ دار نور حوران [للمؤلِّف – لنا  – م. ع. ن]….

– أيضاً: الفلسفة والأدب: مشكلات التواصُلات (مراجعة استخلاصية)، في: الفلسفة وعلم الاجتماع أجنبيّاً – ع6/1987: 032-87.06.030

د. معن النقري