ثقافة وفن

تمارين سوريّة.. منمنات

عالشيخ محي الدين “وديني”

عندما طلب إلى الشيخ المتصوف “محي الدين بن عربي” 1164-1240 أن يدل أين هو إلهه، قام ووضع قدمه على الأرض وقال: “إلهكم تحت قدمي هذا”، الفعل الذي أوصله للقتل إلى جانب العديد من القضايا الني لا طاقة لهذا المقال إيرادها.

جواب ابن عربي أوصله للقتل وهو القائل: “الله تعالى واحد بالإجماع، ومقام الواحد يتعالى أن يحل فيه شيء أو يحل هو في شيء أو يتحد في شيء” وكلام كهذا يستحيل أن ينطق به مشرك بالله أو ملحد به.

إلا أن حكم القتل قام عليه حتى ولو لم يفعل ما فعل.

قصر نظر القضاة وعدم تحليهم بالنزاهة القضائية، جعلهم لا يقيمون حكما على أساس المباينة والمكاشفة والمقارنة، بل على أوهى معنى علق في بالهم وهم يستمعون إلى مقالة الشيخ الأكبر.

بعد مدة من زمن لم تطل، روي أن الموضع الذي وطئ فيه ابن عربي بقدمه بعد جوابه المدوي “إلهكم تحت قدمي هذه” تم العثور في بطنه على صرة فيها دنانير ذهبية، وهي من كان يقصدها ابن عربي بأنها الإله الذي بات تخضع له الرقاب وتهان لأجله النفوس الصعاب.

النظرية التي ستثبت أنها مبرهنة دائما، وفي كل زمان ومكان، عندما اخترع الإنسان مرة أخرى إله يعبده عوض آلهته القديمة، أكان الفرق في هذه المرة أنه يستطيع أن يقبض عليه بيديه، أما كيف يأكله؟ فتلك قضية أخرى.

***

الحاقد على النساء

يعرفه “اللوادقة” أهل اللاذقية بالتأكيد، وبالتحديد أبناء الرمل الشمالي والمناطق المحيطة كـ”الدعتور” التي ذهبت إليها مرارا، إحدى تلك المرات كانت إلى بيت الشاعر السوري “محمد دريوس”، الذي لا أعرف أي شيء عنه الآن، ربما هاجر أيضا، المهم أهل تلك الأحياء يعرفون هذا الرجل الكث الشعر واللحية وصاحب سيجارة الحمراء الطويلة التي لا تنطفئ بين شفتيه، يعرفونه لشهرة صنعها لنفسه بأنه أشدّ الرجال كرها للنساء، فهن السبب حسب رأيه وراء كل مصيبة، وهن المسؤولات عن كسور القلوب التي لا تجبرها السنين ولا تشفي جراحها الأيام، وأنهن جميعا “سيئات” دون أن يستثني أي امرأة، كلهن يعني كلهن، لا مزاح بشأن خطير كهذا عنده.

أما كيف عرف “اللوادقة به وكيف عرفوا قصته، فمن “الطرطيرة” التي حولها إلى جريدة متنقلة، تحمل الكثير من الأقوال والأشعار التي تؤيده فيما ذهب إليه ومنها بطبيعة الحال جملة “نابليون” الشهيرة، مع حذفه للتتمة!.

أما الغريب بخصوصه فإنه ورغم هذا العداء الشرس للجنس الأخر، يظهر بين الحين والأخر، وعلى كل جانب من جانبي “الطريرة” تجلس إلى جانبه امرأة، وهو يجلس بينهما، يقود الطريرة بنفس الحماس الذي يقودها فيه وهو يلقي بيت شعر كلاسيكي لـ:”علقمة الفحل” لا يدري إلا الله من أين “نكشه”، يقول بيت الشعر:

ولا تحسبا هنداً لها الغدر وحدها

سجية نفس كـل غادرةٍ هنـدُ.!

***

عقوبة مشاكس

يصل أحدهم إلى وجهته في اللجوء، فينسى سريعا المعاناة والألم وكسرة القلب التي إما انه مرّ بها، أو شاهد ابن وطنه يمرّ بها، يضع على صفحته أين استقر به المقام ثم يتحفنا بمشاعره الضاجة بالفرح والصخب.

كان من اللافت فعلا أن تراهم وهم يصطفون بكل احترام في طوابير طويلة لتنظيف أحد شوارع ألمانية أو السويد أو غيرها من دول اللجوء، في الوقت الذي مروا به هاهنا ما كانوا ليتحملوا الوقوف لدقائق فيها ولو لجلب الخبز.

بالطابور وقفوا بكل هدوء ينتظرون أن يُقال لهم هيا إلى العمل، في يد كل واحد منهم دلوا فيه ماء وإسفنجة بالإضافة إلى كيس بلاستيكي أزرق للمّ المخلفات التي ربما هم من صنعها ليصار إلى عقابهم بتنظيفها، ولو تأخر أحدهم بالعمل، لأكل ضربة عصا على راحة يده كالطالب المشاغب، هنا لم يكونوا ليلتفتوا حتى إلى وجه عامل النظافة الذي كان يعود إلى بيته منهكا من تجميع مخلفاتهم التي يرمونها من النوافذ إلى الطريق، غير معنيون بمن قد تقع عليه، هنا قد تحدث مشاجرة بين اثنين منهم تستخدم فيها السكاكين والبلطات وما وصلت أليه اليد، بسبب تقدم أحدهم على الأخر في طابور في أيام السلم قبل الحرب!.

ليس غريبا أن تدجنكم الغربة، فمن اختار الذل، هان عليه كل شيء حتى أمه.

***

صباح دمشقي

منذ مدة طويلة لم أمشِ صباحا في دمشق كما فعلت اليوم. من شارع الملك العادل، مرورا بساحة الشهبندر وذكريات “شينو” التي راحت تمد لي رأسها من كل نافذة، مرورا برائحة القهوة المنبعثة من ركنٍ صغيرٍ، تتسع مساحته بالكثير لأربعة أشخاص، لكن نكهة قهوته عميقة ومحفزة، تستحق الوقوف لأجلها بضعة دقائق، مقتطعة من وقتي “السمين” وأنا استرجع ما قاله “درويش”: (لا صباح لرائحة البن من بعدك) مراقبا حديقة عرنوس، مرواح الناس ومجيئهم، الحزين منهم والسعيد، المراهق والمتعب من مشاعر ثقيلة على وجدانه.

أخيرا كوب قهوتي بين أصابعي، ودخان سيجارتي يطير في سماء دمشق، حتى يصبح جزء من مزاجها ومزاجي الذي تحمله.

سحبة عميقة، ثم رشفة قهوة، وها أنا ذا امشي فوق بلاط الرصيف المواجه لحديقة “السبكي” حيث ما زال أهل الغرام على عاداتهم فيها، رغم أنها تغيرت كثيرا عما كنا نعرفه منها، وأجمة الياسمين التي كان يلوذ بمخبئها من أرهق الوجد قلوبهم وهرموناتهم معا، لم يعد لها وجود، وكأنما حلاق معدني قام ومقصه الذي بلا قلب بكل هذا الخراب، المقاعد تحت الظلال التي كانت، باتت اليوم مكشوفة بلا رحمة، حتى القطط والعصافير، لم تعد تمارس الحب عليها.

انتهت السيجارة، ومازال في كأس القهوة ما يجعلني أفكر بالسيجارة الرابعة معها، يا لها من قهوة طيبة، قلت لنفسي وأشعلت سيجارتي، لأجد نفسي في المالكي، امشي بين حسناواتها اللواتي يستيقظن باكرا للرياضة، أيضا في المكان أم بائسة ومعها طفلة دمثة الروح، جاءت إلي، وشعرتُ وأنا أسمع ضحكتها وأرى قسماتها، أنني أيضا أباها، قبلتني على خدي، رشوت ضميري قبل أن انصرف وفي حلقي مرارة ما، لا أعلم إن كانت من القهوة، أو من السيجارة، أو من ذاك الإحساس الذي لا ينفك عني وينغصني كلما رآني ولو للحظة واحدة على وجهي علامات الرضا، التي سببتها رائحة قهوة، وسيجارة، ومشوار على الأقدام، لم أقم به منذ مدة طويلة في صباح دمشقي رائق، كصباح اليوم.

تمّام علي بركات