أحوال شخصية
في حي “العازرية” الذي يقع في منطقة باب توما، يوجد في أحد تلك الجدران، تمثال لسيدة ترتدي الأزرق وتضع على رأسها قطعة قماشية بيضاء على رأسها، رافعة ذراعيها إلى السماء بوجه مبتسم.
هذا “المذبح” يوجد ربما منذ أكثر من 50 عاما، وفي كل فترة، يقوم أحدهم بترميمه وإعادة الألق إليه، فيعود متوهجا كما كان، رغم أنه موجود في الشارع، ولا حجاب بينه وبين الناظرين، إلا بضعة قضبان حديدية، صارت وكأنها حمالّة أماني للجميع، وخصوصا للعشاق، الذين يقفون في ذاك المكان، يشعلون شمعة، ويتمنون لبعضهم ما يتمنون، ثم يمضون، وتبقى تلك السيدة رافعة ذراعيها ‘لى السماء ووجهها يبتسم برقة، وعلى القضبان الحديدية التي تجعل الناظر القادم من جهة كنيسة “الزيتون” يظن أنه يشاهد سيدة تقف خلف نافذة، يعلّق من يستوقفه المكان على تلك القضبان شيئا بمثابة نذر صغير ستكون هذه علامته، – بغض النظر عن دينه- لنية وضعها في قلبه ومضى.
ما فعلتهُ عندما رأيته للمرة الأولى، أنني أخذت بضعة شعرات طويلة من شعركَ الذي كان طويلا حينها، وقمت بجدلها بخفة ثم ربطتها بالقضبان، طالبا أمنيتي التي لن أبوح بها هاهنا.
هذا جرى منذ 20 عاما.. ولا أعلم إن كانت تلك “الشعرات” العزيزة، بقيت هناك أو أنها ببساطة طارت كما طارت كل تلك السنين ومن فيها.
**انتبه، جمدت في أرضي وكأنني مسمار دق بعناية بالغة حيث هو، لحظات وكأنها حياة كاملة، مرت مع تلك الريح القوية التي خلفتها السيارة، التي عبرت للتو بمحاذاتي، انتبه ،الكلمة، كانت أسرع من الريح والسيارة والحياة أيضا.
إنها الكلمة وقوتها.
**طبعا لا يوجد ضير من تذكير وإخبار من لا يعلم من الشبيبة الذين يتجاهلون ويجهلون، أن كل الاستنكارات وما يتبعها من بابا غنوج الشجب ووو الذي صدر عن ملوك ورؤساء العرب بخصوص #القدس_عاصمة_فلسطين_أبدا، إنما يجري برعاية الببسي كولا والماكدونالد والتوماهوك أو توم كروز لا فرق!.
**نهض باكرا، غسل وجهه، ارتدى ثيابه، سرح شعره، وقبل أن يخرج من البيت، خلع ملامحه البائسة وارتدى قناع الضحك.
رغم تحفظي على ال “ق ق ج” أو القصة القصيرة جدا، لأني أخشى أن يظهر بعدها من يقول لنا: ق ق ج ج، وهكذا، حتى يصبح هذا اللون البديع من الأدب، مسخ مشوه لا معنى لوجوده، وهذا محال طبعا، فالفن الأصيل عندما يظهر مرة واحدة، يظهر إلى الأبد.
**يكاد كل واحد مِنا يجزم أن بينه وفيروز علاقة خاصة منفردة عن غيرها، طبيعة هذه العلاقة وحقيقتها هي شأن خاص، فكل واحد منا لديه سره الخاص مع أغنية من أغانيها، وعلى هذا فإن فيروز تكون لنا وحدنا وللجميع معا.
هذه السيدة لا تمر بها السنون كما تمر بنا، ولا ينال الزمن من أرجوحة صوتها الطائرة أبدا.
البارحة كنت أحاول أن اعرف أي الأغاني هي التي تركت أثرها أو ورطتها في وجداني، فوجدت نفسي متورطا في الكثير مما غنته هذه السيدة.
فيروز جميلتنا جميعا، آحادا وجماعات.
**مرت القذيفة و عبرت فوقي وعرفت أنني لست القتيل اليوم من صوتها الذي سمعته.
السوريون صاروا يعرفون أنهم إن سمعوا صوت القذيفة فهذا يعني أنهم نجوا منها، لكن طفلا صغيرا لم يسمع صوتها، كان مشغولا بترتيب أغراض بسطته في يوم العطلة، “سمسمية، وجزرية، علك شعراوي، ومحارم صغيرة”، تلك الأغراض التي كان يرتبها حاولت تنبيهه لأن يصغي باهتمام، لكنه لم يصغِ. أغراض بسطته تفرقت على الرصيف، تماما كما تفرق جسده صغير.
قذيفة عبرت فوقي، سمعت صوتها فنجيت، لكن ذاك الذي يستحق الحياة أكثر مني، انشغل عن الموت بإشغال الطفولة، ولهو العمل على رصيف، لم ينتبه أن الموت هو أول من سيشتري اليوم من بسطته الصغيرة الموجودة على رصيف، ولم يبق منها ومن صاحبها سوى الألم والحسرة ودماء شطفها ماء دون جدوى.
تمّام علي بركات