هل يمكن العيش بلا معارضة؟
عادت الدولة الوطنية في عالمنا المعاصر لتواجه من جديد مزيداً من التحديات على التي واجهتها في القرن الماضي أثناء نضوج حركة التحرر الوطني وتكاملها في المنطقة والعالم.
فبعد انقضاء زمن القطبية الثانية، وحقبة التوازن الدولي تنوّعت هذه التحديات وتعددت، ولاسيما مع تقدّم طروحات العولمة نظرياً وممارسةً، فبرزت من جديد نزعات الهيمنة والتفرّد والابتزاز، وكان الطرح الاستراتيجي للإدارة الأمريكية سابقاً «من ليس معنا فهو ضدنا» مؤشراً واضحاً وخطيراً في هذا السياق أفضى فيما أفضى إليه وبأبشع صوره إلى ما شهدناه في العراق وليبيا، ومحاولة وضع الحبل على الجرار حتى اليوم.
ولعل طروحات الإدارة الأمريكية اليوم خاصة، ممثلة بانفلات ترامب، من المؤشرات الخطيرة جداً أيضاً لنظرية «عالم بلا سيادة» – عنوان كتاب برتران بادي الأكاديمي الفرنسي الباحث في الحركات الجهادية وفي «الربيع العربي».
فهذه الإدارة تتجه لترسم مفاجآت ومفارقات في السياسة الدولية المعاصرة. والغريب في الأمر أن بعض ملامح الكاريزما الشخصية السياسية لترامب تذكرنا كثيراً بخطاب الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي في الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2009، بل أكثر من التذكير، إذ يمكن اعتبار نهج ترامب بمثابة مسوغات كبرى لما ذهب إليه يومها القذافي رغم ما أثاره من استغراب المجتمع الدولي ولاسيما حين رمى بميثاق الأمم المتحدة في وجه الحضور. فترامب اليوم وخلال سنة من ولايته يكاد يدفع بإدارته للانسحاب من ميثاق الأمم المتحدة بعد موقف الإدارة من اتفاقية المناخ، والاتفاق النووي مع إيران 5+1، والموقف من الناتو، ومن التجارة بين ضفتي المحيط الهادي…، وصولاً إلى قرار الإدارة بشأن القدس مؤخراً.
إذن، الدولة الوطنية في عالم اليوم، وتحديداً في العالم الثالث تواجه تحديات كبرى، وأكبر من المستقر في المعجم السياسي الحديث والمعاصر حول مفاهيم عديدة، الوطن، المواطنة، حقوق الإنسان والحريات، المعارضة.. تحديات أكبر من التصنيف الذي كان مستقراً في الأدبيات السياسية والدستورية والحزبية والقانونية في القرن الماضي. ما يجعل هذه الدولة في وضع أحوج ما تكون فيه إلى الاستقرار والسيادة والوحدة الوطنية والمجتمعية.
بعد أحداث 11 أيلول 2001 تدفّقت إلى الدولة الوطنية من حيث تدري أو لا تدري آثار الرياح الحارّة التي لفحت وجوه كافة القطاعات فيها جرّاء طروحات النظام العالمي الجديد، والعولمة، وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي U.N.D.P، والعامل التدخلي للمنظمات غير الحكومية N.G.O فوجدت الدول وخاصةً العقائدية – حتى الكبرى منها – نفسها تتجه اتجاهاً ليبرالياً جارفاً وفي بعض الأحيان متوحشاً ظناً منها أن هذا يُسهم في التكيّف والتكامل والاستقرار المحلي والإقليمي والدولي.
ولا شك في أن هذا جعل لموضوع «السيادة» طعماً بل لوناً آخر أكثر تعقيداً وكذلك الأمر لمفهوم «الدولة العميقة» وبالتالي أصبح وضع «الحكومة» في أغلب بلدان العالم في مهب رياح الاضطراب والترقّب… إلخ، مقابل طرح مسألة الحريات وحقوق الإنسان والمتاجرة بالمظلومية وبالديمقراطية.
في هذا السياق تقدّم طرح مسألة «المعارضة» بطعم جديد، وانتقل من سياق التعريف المعجمي المستقر وهي أن تكون «حركات سياسية حزبية داخلية لها مشروعها الوطني الدستوري»، لتصبح معارضة من نوع جديد ليس شرطها الأساسي «داخلية» ولا وطنية، ولا لإعادة النظر بهدف الطريق الآخر الأكثر جدوى في التنمية والشفافية والنقد والمساءلة. معارضة يمكن أن تثير الشغب والتخريب، وأن تسهم في تدمير البنى الفوقية والتحتية، بل معارضة يمكن أن تحمل السلاح وتواجه الحكومة والمجتمع والدولة وصولاً إلى مواجهة الوطن والحياة الوطنية معه.
ويبدو هناك اتجاه دولي واضح لدفع الدولة الوطنية لتنوس بين الحالة الوطنية والمعارضة غير الوطنية، ولتبني الدولة الوطنية دستوراً جديداً يرهقه هذا النوَسان، علماً أن شرط «الوطنية» في الدولة هو السيادة اللازمة أولاً لبناء دستور علاقته عضوية بالوحدة الوطنية، فصارت «الديناميكية» ضرورة.
حقاً أصبح تعريف المعارضة اليوم إشكالياً بل إشكالية كبرى، فالمعارضة في الغرب شرطها الأساسي أن تكون سياسية حزبية سلمية داخلية ووطنية، بينما عندنا لا مشكلة في أن تكون مرتبطة بالخارج، وليست سياسية ولا سلمية ولا وطنية، ولا مشكلة أيضاً في أن تراهن على منجز المتطرّف التكفيري والإرهابي، وعلى دعم وهدف الأعداء التاريخي للشعب وللوطن وللأمة. إنه فهم جديد يسيء إلى مفهوم التفكير النقدي والمراجعة النقدية، وإلى مفهوم المعارضة الوطنية بالأساس التي لم يعد شرطها الانخراط في الاصطفاف الوطني الطوعي البنّاء.
فهل يمكن العيش بلا معارضة؟ إنه سؤال ليس بسيطاً ولا يمكن الإجابة عليه بلا أو بنعم، فقد صارت مسألة المعارضة ومسألة الوطنية في عالم اليوم أمام «إشكالية» كبرى. ولذلك يرتبط الجواب بالظرف التاريخي وبالحياة الوطنية اللازمة لوجود الدولة الوطنية بشرطيها الأساسيين الوحدة الوطنية والسيادة.
وفي ظروف المنطقة أكدت التجارب أولوية الحاجة إلى النظام السياسي الوطني «القوي الصلب» أولاً والقادر على ضبط ما لم يعد معه استبعاد «نظرية المؤامرة» مفيداً، ولاسيما بعد أن سمعنا بالأمس تصريحات ترامب ونتنياهو تجاه الأحداث في إيران – إيران التي حملت العبء الأكبر في هزيمة داعش – هذه التصريحات التي نقول معها: رب ضارة نافعة.
إن ما سبق يدفعنا إلى اليقين بوجود طريق واضحة مجدية للتعامل مع هكذا سؤال حين نعود إلى حديث القائد بشار الأسد ومبادرته التي طرحها في 6/1/2013 فبيّن: «هكذا خلاف بين المعارضة والموالاة يكون حول كيفية بناء الوطن لا تخريبه، حول كيفية تقدّمه لا إرجاعه إلى الوراء عشرات السنين..».
د. عبد اللطيف عمران