ثقافة وفن

أغنية وتاريخ

تنشأ الدولة أيّة دولة من خلال الحروب التي تخوضها؛ فالمحاربون هم من يؤسسون الدولة بمعناها القائم. منذ “مينا” موحد القطرين في مصر، إلى الدولة الإخمينية في بلاد فارس، مروراً بالإسكندر المقدوني الّذي أُقيمت عدة دول على وقع فتوحاته وحروبه، مروراً بالدولة الرومانية، والدولة الإسلامية الأولى والثانية، والدولة المغولية، ثم الدول الغربية الاستعمارية في عصر النهضة حتى عصرنا الحاضر؛ وقد تحدث “ابن خلدون” عن ثلاثة أطوارٍ للدولة: طور النشوء والتأسيس، وطور الاستقرار، وطور الأفول. ويمكن القول أنّه مثل الدولة بمنحنى يبدأ صاعداً ثم يستقر أفقيا لمدة من الزمن وبعدها يهبط تدريجيا وسنتناول هنا طور النشوء والتأسيس الّذي يقود عادةً إلى طور الاستقرار، من خلال مسرحية للأخوين رحباني، ارادا أن تصنع الفرق في ثقلها المعنوي والوجداني، الذي يعطي جيش البلاد المدافع عنه زخما إنسانيا ووجدانيا ووطنيا لا يلين.

هكذا تنشأ الدول القوية عن طريق الحروب وعلى يد العسكر المدعومين بالمفكرين، قبل أن تتبدل الأدوار عندما تستقر الدولة فيمسك بها المفكرون الجيدون المدعومون بالعسكر الجيدين، ثم تبدأ الدولة بالانحطاط حين يفسد الفكر، فليس هناك دولة قوية لم يكن للعسكر فيهل اليدُ الطولى في فترة نشوئها أو استقلالها وبدء عملية صعودها للوصول إلى مرحلة الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي. فالاستقلال يحتاج إلى العسكر، والتوحيد يحتاج إلى العسكر، والحرب وتوسيع الدولة يحتاج إلى العسكر كما هي حاجتنا اليوم إلى جيش البلاد في الحفاظ على بقائها وبقائنا بالتالي..

لكن لماذا هذه المقدمة عن الدول وأطوار نشوئها وعن أيام قوتها وعزوتها والرحابنة معا؟

سنة 1962 في الوقت الذي كان فيه الوطن العربي يغلي بالثورات الحقيقية الّتي تعمل على طرد المستعمر من المحيط إلى الخليج، وفي الوقت الّذي كان فيه “فؤاد شهاب” في سدة الحكم في لبنان يحارب إلى حد ما الإقطاع والرجعية؛ وهو الّذي كان قائداً للجيش، خرج “الأخوين رحباني” و”فيروز” بمسرحية “عودة العسكر”، وحوَت عدة أغاني من بينها “شلحة الحرير”، “الله محيي عسكرنا”، “هلي عالريح”، “بتتلج الدني”، “معافى يا عسكر لبنان”، و”بعدك على بالي”. وقد أنجز منصور وعاصي الرحباني هذه المسرحية في وقت كان الوطن العربي يعج بالحراك الثوري ضد الاستعمار لإخراجه بالقوة في الجزائر واليمن وغيرهما، وكانت الجيوش العربية تبني نفسها وتعد بتحرير سريع لفلسطين والتخلّص من كل أثر للاستعمار للوصول إلى مرحلة استقرار الدول العربية بعد استقلالها، وهكذا وجد الرحابنة أن لديهم واجبا حربيا لا يقل عن الحرب عند الجيوش، إلا أن حربهم ستكون بالفن، من خلال العمل الذي سبق ذكره، والذي كان يحيي الجيش اللبناني ويحمس الجيوش العربية وجنودها، لتحرير كل شبر مستعمر من الوطن العربي، وهذا ما يعني أنه يجب يكون للفنان قضية يؤمن بها ويقاتل لأجلها.

وقد كان الجيش الوطني في تلك الفترة التي كان فيها العدو واضحا وجليا هو مصدر الثقة وعمود الدولة وهيكلها، الّذي كان من المأمول أن يكسى لحما وأحشاء وروحا لتصبح الدولة دولة حقيقية.

تبدأ مسرحية “عودة العسكر” بمجموعة من الفتيات والنسوة يغزلن اللفحات في انتظار أحبائهن الذين ذهبوا إلى الحرب. وعندما عاد المقاتلون استقبلت كل فتاة وامرأة حبيبها أو زوجها أو ابنها، عدا “نجلا” الّتي تبين أن حبيبها “سالم” قضى أثناء المعركة. وفي خضم حزن “نجلا” واستها “فيروز” بأغنية “بتتلج الدني” التي تقول فيها: (لا تخافي سالم غفيان مش بردان/ نايم ع تلة وبتضل تصلي/ وناطر زهر اللوز بنيسان/ بقلبه الإيمان/ ومغطى بعلم لبنان) ومن أشهر أغاني المسرحية أيضا “بعدك على بالي”، والتي يعبر فيها “الرحابنة” على لسان “فيروز”، عن انتظار مرحلة “ربيع الدولة” أو استقرار الدولة في عبارة: (طل وسألني إذا نيسان دق الباب).

وحين فتحت “فيروز” الباب لم تجد سوى الورد أمامه وهو كناية عن الشهداء الذين ضحوا دون أن يأتي الربيع.

بالتأكيد من كان في بال “فيروز” والأخوين رحباني هو لبنان. فهو زهر تشرين حيث أُعلن استقلاله عن فرنسا في 22 تشرين الثاني 1943، ولكن لم هو على بالها؟ هل هاجرت؟ ألم يكن كما رسمته في أحلامها؟ نعلم أن الأخوين رحباني رسما “لبناناً” في أغانيهما أجمل بكثير مما هو في الواقع و ربما أرادا قول أن “لبنانهما” مختلف، وهو على بالهما دوما، حيث مرت الفصول والسنون دون أن يريا لبنان كما أراداه، ودون أية إشارة من أحد أنهما سيريانه كما يريدان، حيث كان الساسة اللبنانيون وقتها من بقايا الإقطاعيين الّذين يُسيطرون على كافّة جوانب الحياة في ذلك البلد الصغير.

وبعد 52 سنة على الأغنية، ضاعت الجيوش وضاعت الأوطان، وضاعت كل فلسطين، وضاعت “نجلا” حبيبة “سالم” الذي ما زال الثلج وعلم لبنان يغطونه، بالتأكيد ما هذا كان حلم كل من عاصي ومنصور وفيروز ومن معهم، وهم ينظرون إلى البلد العظيم الذي يعشقون، يتعرض لكل تلك الويلات، لكنهم ذهبوا لتأدية أدوارهم الإبداعية والفكرية الموحدة والداعمة، لأنهم يؤمنون، أنه ما من جيش يحاب إلا ويجب ان يكون هناك فن يمجد انتصاراته، بل ويرفع معنويات جنوده في حال تعرضت لمطبات خلال فترة الحرب، وهذا ما كان في تلك المسرحية، التي لامست بكل وجدان، قلوب الجميع وأرواحهم حتى العظم.

من أغاني المسرحية نورد اغنية “بعدك على بالي”

(طلّ وسألني إذا نيسان دقّ الباب/خبيت وجي وطار البيت فيّي وغاب/ حبّيت افتحله وعالحبّ اشرحله

طلّيت مالقيت غير الورد عند الباب/بعدك على بالي/ يا قمر الحلوين، يا زهر بتشرين يا ذهب الغالي/

بعدك على بالي/ يا حلو يا مغرور، يا حبق ومنتورعلى سطح العالي/مرق الصيف بمواعيده والهوا لملم عناقيده/ وما عرفنا خبرعنك ياقمر/ولا حدا لوحلنا بإيده/ وبتطلّ الليالي وبتروح الليالي/وبعدك على بالي على بالي).

تمّام علي بركات