ثقافة وفن

تمارين سورية 4

**ما من عادات معروفة لهذه المدينة، التي تشبه سيدة متصابية، تبدل ابهظ أثواب غوايتها المزركشة، أمام الفتية والكهول، و في كل مطلع شمس ومغيبها!

المدينة التي تقع بين النظر وشروده.

المدينة المكتظة بالأسماء النابضة بالحياة ولكن على جدار!.

ما من عادات ثابتة ومعروفة لها تستطيع أن تعتمد عليها في ضبط إعدادات يومياتك التي صارت تشبهها أحيانا لدرجة مخيفة.

المدينة التي يتسع قلبها لكل هذا الوجع لا بل وتخفيه وربما تخنقه داخلها، لا ريب إنها بقلب من أسمنت مسلح، وإلا لما قدرت على هذا.

ما من عادات ولو ملتبسة لهذه المدينة ولا تعترف إلا بفصل واحد فقط لا غير، ومن لا يعجبه، فما عليه إلا توضيب امتعته والرحيل، وهكذا ببساطة تصبح كل أيامك معها، كلها جميعا في صرة صغيرة تحتوي ثيابا بالية وربما صورة عائلية باهتة الألوان، وربما بعض ذكريات خف وهجها، تخلص منها إن استطعت لذلك سبيلا.

**كلما اشتقتك، كتبت على النافذة اسمكِ، حبري أنفاسي وقلمي يتمايل على منحنيات اسمكِ وجغرافيته الرشيقة ليقف كالألف على أول الكلام.

اذهب لاصنع قهوتي من بعض ما علمتني كيف وأنا متشاغل بعطر ألفتك الحنون التي بدأت تتذمر من شرودي البعيد في اقصى ضحكتك التي لا شرقية ولا غربية، وعندما وأعود بعد لحظات إلى ما كنت عليه، أرى كيف صار الأسم غيمة، تمطر في زجاج النافذة وفي صدري معا!.

البارحة مساء كنتِ شجرة واليوم أنتِ حلم معتق بطعم الكرز.

احتاج إلى كل المشروبات الروحية في باب توما وباب شرقي وما حولهما، لأطفئ ظمأي ليوم واحد من تلك الأيام التي مرت وكنت خلتها لن تنتهي!.

احتاج إلى كل الدروب التي كانت تأخذني إليك، حتى تلك الفرعية، لأتعرف على خطواتي مجددا، فخطواتي اليوم ملتصقة بالأسفلت، بينما مرت فترة بعيدة، كان خطواتي محمولة فيها على الهواء الذي يحملني كطائرة ورقية ملونة إليكِ.

احتاج إلى هواء غير هذا الهواء المشحون بالكآبة التي تهطل كمطر على النوافذ وقرميد الأسطحة الوحيدة، إلى ذاك الهواء بالذات لا غيره اشتاق، عندما تنقطع أنفاسي، لأن كل ما فيكِ سدّ تماما كل ما فيّ، أواه كم احتاج لهذا الهواء الذي كاد يخنقني أحيانا.

احتاج من يملأ لي هذا الكأس المترع بالأمس حتى الشفة الأخيرة، دون أن يسكب شيئا منها على طاولتي، فيصير العالم اضيق من كلماتي، والحياة أقل شأنا مما يعتمل في صدري.

** ليس ثمة ماهو مغرٍ في صندوق الرسائل، مامن جديد فيها والقديم الذي كان منتظرا كجندي أن تنتهي الحرب، مات.

** ما من دهشة في بوستات العشاق التي صارت كلها ودفعة واحدة حزينة، وهذا بطبيعة الحال ليس على غير العادة، فمتى كان العاشق سعيدا بأي حال؟، لكنها كتابات مسكينة، تبدو بلا حيل، مكسورة الظهر ، موجعة حتى وهي تدعي غير ذلك.

** لمن نسكب كل هذا الحبر الدامي؟ ولمن نكتب كل تلك الحكايات، ولأجل ماذا نصنع مزيدا من الذكريات التي لا تكتفي من طلب المزيد ثم المزيد من الفقد واللوعة والغربة.

** منذ مدة وأنا أنظر للركام الذي خلفته القذيفة التي سقطت في الحي الذي أقطن به وعلى بعد أقل من عشرين متر من بيتي، كانت وجوه الناس كلها تحمل نفس التعبير، الصدمة نفسها والألم والحزن نفسه، رغم أنها واحدة من عشرات القذائف التي سقطت في المكان، الناس لا يريدون أن يصدقوا أن مزيدا من الحزن والفقد واللوعة على الطريق!

** إنها نوبات متتالية من الهذيان، هذا شاعر يرثي مدينته وذاك أب مفجوع بأولاده جميعا، وتلك سيدة تنتظر وتنتظر ثم تنتظر مرة أخرى، وإن شاغلها شيء ما عن انتظارها، هرعت منه مسرعة وعادت للأنتظار.

– كيف أختم هذا الكلام الذي لا أعرف لماذا اكتبه؟ كيف انهي هذه الورطة الوجدانية مرة أخرى؟ كيف؟؟.

تمّام علي بركات