ثقافة وفن

نحن والسعادة

موضوع السعادة من مباحث الفلسفة كان لفت انتباهي الإعراض عنه في العصر الحديث، على الرغم من أنه عصب ومحور أكثر وأهم الفلسفات عبر التاريخ، وفي حين كنتَ تجد الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان…إلخ…إلخ في الأدبيات والمرجعيات الدولية/ الأممية عبرْ القرن العشرين وما تلاه بالطول والعرض، كانت (وليس كادت) السعادة غائبة كلّياً تقريباً، وقد سبَحْتُ عَكْس التيار في كتابي/مخطوطي الأول منتصفَ الستينيَّات ـ «أفكار متواضعة» ـ حين فرزْتُ للسعادة عنواناً مستقِلاً وتكريميّاً في القسم من الكتاب المختص بمباحِث الأخلاق ـ أي إلى جانب الحرية والخير والاختيار والمساواة…، بل وجعلتُ السعادة غاية الحياة وميَّزْتُها أهميّةً ومركزيةً ومحْوريةً وغائيةً هادفيةً، ثم جاء أوان نَشْر كتابي/مخطوطي هذا عام 2004، فكان كالشعلة التي انطلق منها الاهتمام مجدَّداً بالسعادة وبدأتْ إعادةُ الاعتبار في كل مكان: في الإصدارات والنشرات والبحوث والكتب وتقارير الأمم المتحدة في التنمية البشرية وفي دخولِها مكوّنات معايير هذه التنمية، وفي المناهج التربوية الألمانية ـ مقرَّر السعادة ـ إلى آخر القائمة. وكي لا أسترسل كثيراً، سأعرج على أحد أعداد مجلة «قضايا الفلسفة» الأكاديمية لعام 1982 العدد 8 [8/1982]، لِبعث إثارة مسألة السعادة مجدَّداً على مستوىً تأسيسيّ ومن منظور فلسفي نظري معمَّق لأن القسم المتخصص في العدد «بالفلسفة في الخارج» يتناول مسألة السعادة هذه.

تحتلّ مسألة السعادة في العدد المذكور الصفحات/ 142 ـ 146/ وقامت بالمراجَعة «ل. ف. كونوفالوفا»، وثمةَ كثير من التأكيدات المنسجمة المتوافِقة مع افتراضاتي في المسألة. جاء هذا الجزء من قسم «الفلسفة في الخارج» بعنوان: «السعادة كمشكلة كلاسيكية للفلسفة» ومنذ البداية ثمةَ إشارة إلى أن الفلسفة المعاصرة والأخلاق (علم الأخلاق) يشهدان في الآونة الأخيرة منحىً للرجوع إلى المشكلات الأخلاقية التقليدية، … ولاسيما إلى مشكلة السعادة، وفي العقد الأخير (قبل عام 1982 طبعاً) وحده ظهرت في «ألمانيا الغربية»، مثلاً، كتب عديدة عن السعَادة (وتُورد المراجِعة ثلاثة عناوين منها بالألمانية) وتُبرز من بينها كتاباً من تحرير «غ. بيْنْ» ـ «مسألة السعادة» مِن إصدار الجمعية الفلسفية الألمانية «الغربية» (حينها) في شتْوتْغارْتْ، ويوضح «غ. بين» مُصْدِر الكتاب (ناشرُهُ) سرَّ العودة واللجوء إلى تاريخ الفلسفة مبيِّناً أنه «في بداية القرن التاسع عشر (ق. 19) مشكلة السعادة سقطتْ من دائرة الاهتمامات الفلسفيّة» [ص7 من الكتاب المذكور] ويُري المؤلِفون أيّ مكانةٍ هائلة احتلتْها موضوعة السعادة في الفلسفة السابقة بأكملِها. وكان لدى هيغل كافةُ الأسُس لتأكيد أنَّ «المبدأ العامّ للفلسفة كلِّها حتى كانط هو التعليم عن السعادة». وفي حين فقدتْ مشكلةُ السَعادة، على ما يبدو، أهميتَها الرؤْيوية نهايةَ القرن التاسع عشر (ق. 19) وفي النصف الأول من القرن العشرين (ق. 20) فإنها في أيامنا هذه تكتسب مجدداً أهميةً من الدرجة الأولى.

والعرض والتحليل يستحقّان الاهتمام والمتابعة كونهما من وجْهةٍ تخصُّصية فلسفية وتاريخْ فَلْسفية بصورةٍ خاصة.

أضيف ملاحظاتي الأخرى في هذا المجال، وأُعيد التذكير بتجديد المسألة وإثارتها خاصةً بعدَ عام 2004 ممَّا ذكْرت، فقد أرسل الأميريكان إلى اتحاد الكتاب العرب في سورية ومنذ سنوات كرَّاساً / كتيِّباً في السعادة بمئات النُسَخ للتوزيع مجَّاناً، كما أنَّ سلسلة عالم المعرفة الكويتية التي تُصدِر كتاباً محورياً متخصصاً كلَّ شهر منذ عقودٍ عديدة أصدرت مؤخّراً كتاباً متخصصاً بالسعادة ومتمحْوراً حولها نهاية العام الماضي أو بداية العام الحالي.

هذا عدا «الملْحمة» المحلّية في إحياء وبعْث «سيرة» السعادة فجأةً بلا مقدمات ولا تراكُم سابق ولا مبررات منطقية عقلية مفهومة مع التركيز على إعادة هذه السعادة كلها برمتِها إلى شخص واحد ومحطةٍ واحدة في التاريخ العربي الإسلامي (في الفلسفة العربية الإسلامية)، وهذا ما قام بتمثيل الدور فيه د. معن صلاح الدين علي الذي هُيّئتْ له أفضل وأمْيزُ الظروف والأماكن لإلقاء سلسلة محاضرات في السنوات القليلة الماضية تحت يافطة وعنوان: أبو حيان التوحيدي فيلسوف السعادة.

لو نظرْنا إلى الوراء قليلاً لوجدنا ـ استخلاصاً واستنتاجاً ـ أنه قبل منتصف السّتينيَّات غابت أو كادت مباحث السعادة عن الفكر والثقافة في العالم امتداداً لبدايات القرن التاسع عشر التغيْيبية، كما توضح الدراسات تاريخ الفلسفية المتخصصة، وأمَّا حسْب هذه الدراسات الألمانية للسعادة المذكورة آنفاً والمُراجَعة مع «الدَّعْم» سوفِييتيّاً (روسياً)، فإن بعث الاهتمام بالسعادة ونفْخ الصُّوْر فيها بدأ منذ عقد إلى عقد ونصف (من قبْل عام 1982) ما يعني ما بعد منتصف الستينيات ومن بداية السبعينيّات، أي بَعْد مخطوطي/كتابي الأول «السعيد» بفصلِه السعيد، ثم جاء نشْر كتابي هذا عام 2004 لِتليهِ طفراتٌ نوعية ملْحوظة وغير مسبوقة دولياً وعالمياً ومحلياً وفي سائر المجالات والمستويات ـ التي ذكْرنا بعضاً منها هنا ـ بَعد منتصف العقد الأول من هذه الألفية.

***

د. معن النقري