ثقافة وفن

“عطر امرأة”.. صرخة في وجه الحرب

مع نهاية هذا العام يكون قد مر ربع قرن على إنتاج فيلم (عطر امرأة)، الفيلم الذي حقق عدة جوائز لعّل أهمها جائزة الأوسكار، ومع مرور كل هذه السنوات مازال الفيلم يحافظ على ألق حضوره، وجماهيريته، ومازال يعرض على العديد من الشاشات.

فيلم عطر امرأة لايمكن لمن يشاهده للمرة الأولى إلا أن يحضره لمرة ثانية على الأقل، هذا إذا لم يكن أكثر من ذلك، مثلما حدث معي، نظرا لعدة مقومات وعوامل اجتمعت لتكون صورة بصرية وفكرية وإنسانية تلامس مشاعر الكثيرين من عشاق الفن السابع.

يتناول الفيلم في خطه البياني العام رسالة تحدثت عن عمق وبعد الحب وعن المرأة كسحر وسر ورمز لديمومة الحياة وللبعث على عشق الحياة، وعن لعنة الحروب ونبذها والكره الحاد لها لما تخلفه من كوارث وإحباط وقلق مدمر… مثلما حدث لبطل الفيلم الكولونيل – آل باتشينو – الذي يفقد بصره في إحدى الحروب.

الفيلم إذا رسالة إنسانية رائعة ومشوقة تجمع طالب جامعي فقير (الممثل الأمريكي: كريس أودونيل) الذي قدم دورا رائعا – ساهم في انتشاره وتحقيق نجوميته، على وجه الخصوص أنه كان إلى جانب أحد عمالقة السينما آل باتشينو (الذي حاز وللمرة الأولى في تاريخه السينمائي الجائزة الأولى في الأوسكار)، عن دوره في هذا الفيلم.

فيلم عطر امرأة تم تصويره بين نيوجرسي ونيويورك، عبر وصفات متنوعة الجمل ومصنوعة بإحكام، وبنية حوارية استغنت عن تقنيات (الأكشن) وتنقلت بين فكرة الدفاع عن القيم الإنسانية ومحاربة فكرة الهروب إلى الموت عبر شخصية الكولونيل الذي يظهر في الربع الأول من الفيلم كشخصية عصابية مسحوقة بالحرب. فهو كولونيل متقاعد خرج من الحرب بعاهة العمى وتراكمات عديدة أخرى جعلته يصل إلى قناعة أن لامعنى لحياته فيقرر إنهاء حياته وعلى طريقته الخاصة، ولكن قبل هذا عليه أن يرتشف من عسل الحياة رحيق العالم لآخر قطراته، فيقرر أن يقوم برحلة. ولأنه فاقد للبصر يستعين بمكتب التشغيل الذي يرشح له من يساعده في هذه الرحلة، والمرشح لهذه المهمة طالب جامعي يعاني من عقدة الفقر ( كريس أودونيل )، الذي يمر هو الآخر بفترة عصيبة ومربكة في الجامعة، إذ يوضع في مأزق الوشاية بأحد زملائه أو الطرد من الكلية، ولأنه بحاجة إلى المال يوافق على العمل كدليل لرجل أعمى، يقوده إلى المطار ويوصله إلى الفندق ومن ثم يعود إلى كليته، ومن المرافقة الأولى يصطدم برجل أعمى، عصابي عنيف وذكي وسريع في اتخاذ القرارات بل هو مقبل على الحياة يحبها وله فلسفته الخاصة نحوها.

بكلمات بسيطة مليئة بتراكمات خبرته العسكرية، وعاهة العمى والعزلة القاتلة، وعبر بنية درامية مكثفة تحمل دلالات عميقة، نجح المخرج (مارتن بريست) في المزواجة، بين كولونيل عقدته فقدان بصره في الحرب وارستقراطيته، وطالب جامعي شفاف، فقير وحساس. ثمة تناقضات بين إرادات متناقضة (الكولونيل – الطالب) العصابية إزاء الشفافية.

في هذه المزاوجة نجد أن رسالة الفيلم وعبر متناقضات سلسة، قدمت قصة إنسانية تتحدث عن معنى وهدف الوجود، يجب إيجاد المعنى وسط كل هذا الغموض وتتوالى الأحداث بدرامية، وعن حاسة الشم المذهلة التي يملكها الكولونيل ففي مشهد الطائرة ومن عطر مضيفة الطائرة يعرف نوع عطرها ويحدد اسمها وبلدها، فيندهش مرافقه الطالب الجامعي من قدرته على تحديد كل صفات المرأة من خلال عطرها، ثم من مشهد الرقصة التي تجمع الكولونيل مع امرأة جميلة يسحبه عطرها إليها، التي تعتذر لأنها لاتعرف الرقص، لكنه يقنعها بأنه يستطيع أن يعلمها الرقص وسط دهشة الجميع، إلى مشهد محاولة الكولونيل الانتحار بعد أن يرتدي كامل بزته العسكرية المزينة بمختلف النياشين والأوسمة التي نالها في حروب كثيرة، وإلى مشهد قيادته لسيارة (الفيراري) السريعة بالنسبة لرجل أعمى وصولا إلى مشهد المحاكمة ودفاع الكولونيل عن الشاب أمام مجلس الهيئة التعليمية في الجامعة.

عموما فيلم (عطر امرأة) يقدم عدة محاور تتركز حول تيمة الدفاع عن القيم وفكرة الضمير والأخلاق وفكرة التبني وطرح الجامعة كرمز من رموز قيم المجتمع التي تنحاز إلى تكتل الجميع ضد إرادة الحرية التي يجسدها الطالب وفي مشهد خارق نرى أجمل خطبة يقدمها الممثل آل باتشينو نستطيع تسميتها أنها درس بالغ في التمثيل من خلال أعمق التعبير الإنساني، وسط صمت وذهول التكتل القاسي ضد إنسانية بسيطة تحاول جاهدة المحافظة على كينونتها وسطهم فكانت المعونة القائمة على الإنسانية التي أدرك الجنرال أنها أجدى من الانتحار.

عموما كان فيلم عطر امرأة قصة إنسانية عصابية مليئة بأكثر ما في الأعماق من جنوح وتشبث بالحياة وما يناقضها في الجانب الآخر من رفض لها، كذلك كان درسا في التمثيل والإخراج المبني والقائم على الاختصار في المشاهد وعدم الإطالة من خلال اللقطات القصيرة والتركيز على الانفعالات العامة للأبطال، كذلك يمكن أن يكون صرخة في وجه الحرب وإدانة لما يمكن أن تحدثه في مستقبل أجيال عديدة.. فهي رسالة مبطنة أدانت الحرب بشكل غير مباشر عبر التركيز على الجوانب الجمالية للحياة بعيدا من الحروب وأكثر التصاقا بالمرأة المعاد البشري والإنساني للحياة

بطاقة الفيلم: بطولة آل باتشينو – كريس أودونيل – غابرييل أنور – فيليب سيمون هوفمان. الإنتاج والإخراج: مارتن بريست. الموسيقى: توماس نيومان.

البعث ميديا || أحمد عساف