سخرية العقاد من ثقافة العامة
كان العقاد يريد أن يسخر من ثقافة العامة التي يكفيها أن تسلب مفاهيم الثقافة بمعناها العميق، والتي تنفر في الوقت نفسه من الثقافة بمفهومها العميق ورؤاها الجادة لأنها تحتاج دائماً إلى أعمال الذهن وأخذ النفس بالشدة من أجل تثقيفها وتدريبها على أن تخوض إلى ما وراء السطح، وتنسحب السخرية طبعاً على الكتاب والفنانين الذين يلبون حاجة الجماهير العريضة، فيصبحون نجوماً يشار إليهم بالبنان وتروج أعمالهم في كل مكان.
فلو أنك بحثت عن أعمال كتابة التسلية لوجدتها في الأعلى توزيعاً، والأبعد صيتاً على العكس من كتاب الثقافة المسؤولة الجادة بمعناها العميق، الثقافة التي لا تقتل الوقت بالفكاهة والتسلية، بل تملؤه وتشحنه بزاد عقلي وروحي، وتعمل على تكوين الرؤية النقدية، وتسعى إلى قيم أنبل وأرفع، فتدفع الفرد إلى إرادة التغيير وتعلمه كيف يجعل من عقله نبراساً يعرف من خلال الصواب والخطأ، أي باختصار تجعل منه إنساناً بمعنى الكلمة.
إن أعمال طه حسين والعقاد واسماعيل مظهر وسلامة موسى وغيرهم من الراحلين هي من هذا المستوى الثقافي الرفيع الفعال، وكذلك أفعال بعض الأعلام في الأجيال المثالية، ونذكر منهم هنا: شوقي ضيف، وعبد القادر القط، وفؤاد زكور، ومحمود العالم، وعبد العزيز صالح، ومصطفى ناصيف، ومصطفى سويف، إلى آخر هؤلاء العلماء والأساتذة الأجلال، غير أن الثقافة بمستواها العميق الجاد، لا تلغي الثقافة بمعناها الدارج، فمن حق الثقافة السطحية (ثقافة التسلية) أن تجد كتاباً وفنانين يملؤون حاجة الجماهير، وطبعاً هو حق عام للعامة من الجمهور مثل حقها بالضبط في أن تملأ آذاننا بضجيج الأغاني الهابطة ليل نهار، وليس لنا أن نغضب حين تختل الموازين فتصبح الثقافة السطحية وإزجاء الوقت هي الأساس أو حين تغتصب هي حق التقدير لتصبح في أعين الناشئة هي القدوة والأنموذج الذي يجب أن يحتذى.
غير أن اعتراضنا لا قيمة له في هذه اللحظة التاريخية في الثقافة العربية التي شوّهت معالمها الاحتلالات الأميركية، والتي أصبحت فيها ثقافة الخرافة وأبطالها أشد سطوة من ثقافة العقل والروح، والتي ظهر فيها الدور الخطير لموظفي الثقافة، وغاب عنها المثقفون الحقيقيون العرب الذين قدموا الإبداع تلو الإبداع الثقافي، وربطوا مفهوم الأمة بالثقافة العربية التي حملت هوية الإنسان العربي ودافعت عن القومية العربية ضد الشعوبية والعنصرية.