“عزيزة هارون” شاعرة الديباجة البحترية والنزعة الصوفية.. زين الدين: نظمت الشعر في سنٍّ مُبكّرة
كثيراً ما كافحت من أجل صقل شعرها الذي وهبته كل مشاعرها وعواطفها وأحلام وآمال ووحدة وغربة وحباً كبيراً ليكون الشعر بالنسبة لها هو المتنفس الوحيد الذي يخرجها من الخيبة والعذاب، وتحت عنوان «عزيزة هارون الشاعرة ذات الديباجة البحترية والنزعة الصوفية الإنسانية»، تناولت ندوة الأربعاء الثقافية الشهرية الثامنة «سوريات صنعن المجد»، في مكتبة الأسد الوطنية بدمشق مسيرة حياة شاعرة محملة بعبق سورية ومفعمة بأحاسيس أنثوية خاصة لتغوص في حياتها من شعر وعمل وعطاء، والندوة التي أدارها الدكتور محمد قاسم تناولت ثلاثة محاور وهي «أصداء الحياة الاجتماعية في شعر عزيزة هارون» و«الغزل في شعرها» و«المؤثرات التراثية وتجلياته في قصائدها».
المؤثرات التراثية وتجلياتها
وفي محوره الذي حمل عنوان «المؤثرات التراثية وتجلياتها في شعر عزيزة هارون» قال الدكتور ثائر زين الدين إن: «عزيزة هارون شاعرةٌ عربيّة سوريّة ولدت في مدينة اللاذقيّة عام 1923، وتوفِّيت في دمشق إثر مرضٍ عُضال عام 1986، ولقد أجمعت الموادُّ التي كتبت عنها – وهي قليلة – أنها لم تنل من العِلْمِ المدرسيّ إلا قسطاً قليلاً، وزوّجتِ الفتاةُ بعد نيلها شهادة التعليم الابتدائي، وهي بعدُ في الثالثة عشرة من عُمرها، ولم يطلُ عُمرُ زواجها هذا أكثر من ستةِ أشهر، وكذا كان مصيرُ زواجها الثاني والثالث، فقد انتهيا بالطلاقِ أيضاً، من دونَ أن تُثْمِرَ إحدى تلك الزيجاتِ عن ولادة طفلٍ يملأُ حياتها، نظمت عزيزة هارون الشعر في سنٍّ مُبكّرة وقبل أن تتعلَّمَ أصولَ النظمِ الصحيح وقرض الشعر، وتابعت: بعد أن أُكرهت على تركِ المدرسة تعليمَ نفسها بنفسها، ثُمّ تتلمذت على الشيخ سعيد مطرجيّ، «الذي تلقّت منهُ دروساً خاصةً، وقد كانَ هذا الأستاذ يميلُ إلى الزُّهد ممّا غمرَ نفسها بنفحةٍ تتوق فيها إلى جمال الروح، ونقاء الطويّة وهو الذي عَلّمها القُرآن، ودروس النحو والصرف، وغرسَ في وجدانها كنوز التراث العربي، بما في ذلك أفكار المتصوّف».
وأضاف زين الدين إن: «وزير الإعلام السوري الأديب عبد السلام العُجيلي عَيّنها أمينة مكتبةٍ في هيئة الإذاعةِ والتلفزيون، فأتاحت لها هذه الوظيفة المُريحة والمناسبة، أن تقرأ كثيراً، وتتفرّغَ لنظم الشعر، وإلقائِهِ من حين لآخر في الإذاعة، في برنامج «شاعر يُنشد» فاتسعت شُهرتُها، وأقبلت عليها النوادي الأدبيّة، تستضيفها في أمسياتها الشعريّة، مثل «مُنتدى سُكينة» الأدبي الذي كانت تقيمُهُ السيّدةُ ثريّا الحافظ الرّيّس في منزلها، وجمعيّة «الندوة الثقافيّة النسائيّة» التي احتضنتها، وفتحت لها صدرها لتُلقي قصائدها».
وبين زين الدين أنه: «لا يخفى على قارئ الشعر أن عزيزة استحضرت الثقافة العربيّة؛ مثل قس بن ساعدة الإيادي؛ وهو أحد حكماء العرب قبل الإسلام (ت 600 م – 23 قبل الهجرة)، وسحبان وائل (ت 674 م – 54 ه)، وهو خطيبٌ مُخضرم من وائل باهلة، ضُربَ المثل به، فقيل: أخطبُ من سحبانِ وائل، وأفصح من سحبان، وأنطق من سحبان، وهي بذلك تمكّنت من إخبارنا أن هذهِ الثانويّة التي تتحدّث عنها كانت معهداً للعلم والثقافةِ والمعرفة، فقد تخرّجَ فيها فتيةٌ نجباءُ فُصحاءُ حُكماء كقس وسحبان، وهي أيضاً – وهذا ما يؤكدهُ حضور اسمي جَدّي العرب قحطان وعدنَان في البيت التالي – معهدٌ وطنيٌ عروبي يمتدُّ بجذورِهِ إلى تلك الأصول العريقة المجيدة، وقد تُعيدُنا مفردة واحدة تستحضرها الشاعِرة من قصائدَ عربيّة قديمة إلى عمقِ الصحراء ومُعاناةِ الشعراءِ فيها.
تقول الشاعرة في مَطلع قصيدة «سأغنّي»:
أنا في الأشواكِ يا فاتنُ لو تسأل عنّي
أجرعُ الصَّابَ وأقتاتُ اللظى من أجل فني
أنا للوعةِ في الدنيا وللبؤس أغني.
وتكرّر الكلمة نفسها في قصيدة «مُعجب»:
«مُعْجَبٌ؟!
وتهالكتُ على مرآتي الصفراءِ أبكي
بابتساماتٍ حزينهْ
معجبٌ؟!
يُرسِلُ أشواقاً دفينهْ!!
لسجينَهْ..
أنا في الأشواكِ يا فاتنُ
لو تسألُ عني
أشربُ الصَّابَ وأقتاتُ اللَّظى
من أجل فني
أنا للوعةِ في الدنيا وللبؤسِ أُغنّي»
أصداء الحياة الاجتماعية
وفي محورها الذي جاء تحت عنوان «أصداء الحياة الاجتماعية في شعر عزيزة هارون» قالت الدكتورة منيرة فاعور: «في بواكير شعرها مالت إلى القصائد التقليدية الموزونة إلا أن ذلك لم يمنع قصائدها من أن تحمل روح الحداثة شكلاً ومضموناً فخرجت من عباءة التحليل إلى رحابة قصيدة التفعيلة فشكلت تجاربها الشعرية إحدى علامات التأسيس للحداثة العربية مع جيل الرواد المؤسسين، أمثال: فدوى طوقان ونازك الملائكة، هذا كله جعلها تنشر في الصحف قصائدها وأولها كانت في جريدة الصباح الدمشقية، ثم ما لبثت الصحف الأخرى في سورية والبلدان المجاورة أن نقلته ونشرته، وأحبت شاعرتنا الشعر كثيراً ونذرت نفسها له، ليكون رسالة إنسانية واجتماعية وسياسية يطلبها الواقع الذي تعيشه بأتراحه وأفراحه، وتقول في قصيدة (يا شعر أنت رسالة):
قلبي يرف على الشعاع الهادي.. يا نعم ما فعل الهوى بفؤادي
أنشدت شعري للحياة وسحرها.. وسمعت همس الروح في إنشادي
ولا يغيب عن نظر المطلع على شعرها ذاك البعد الإنساني في قصائدها، فوجعها وجع الناس، أما فرحها فهو في فرح اليتيم وابتسام المجهدين، والانتصار على المستعمرين، وفرحها في بسمة الأم وهي تستقبل العائدين الغائبين وتقول في قصيدة (ربيع):
ويعود يـــسأل عن ربيعي.. إني غــمرت ربيع عمري بالدموع
أين الربيع؟ وأين عبيره وراحه؟.. وبمقلتي أنينه وجراحه
إن أنوثة عزيزة الرقيقة مع جمالها الباهر مع الشاعرية الخصبة والصوت الهامس الرخيم يساوي قنبلة هيدروجينية، قال عنها الدكتور شكري فيصل: (أناقة في كل وجه، أناقة في المظهر، وأناقة في اللفظ وأناقة في المعنى.. في النار ولا تحترق هذه الفراشة الملونة ودائماً تجدد نفسها).
الغزل في شعرها
وعن (الغزل في شعر عزيزة هارون) قالت الدكتورة فاطمة تجور: إن «لتجاربها الحياتية الخاصة أثراً في رؤيتها الشعرية، فتجارب الحب والزواج المتكرر في حياتها أدت لانكسار البوح العاطفي في شعرها، وما جوهر الشعر إلا إحساس بالحياة، ومحاولة لتشكيل هذا الإحساس في لغة قادرة على أن تأخذنا من الحياة التي نعرفها ثم تعيدنا إليها، كانت قصيدة الحب تمنحها مجالاً حراً في تحقيق الذات لأنه الموضوع الذي تشغل الذات به نفسها حتى تترسب أحزانها في القاع، ويبدو كل شيء جميلاً وسارّاً في هذا الوجود، وتشف قراءة شعرها في الحب عن نسق ثقافي أنثوي يتحرك بحياء حتى يبدو ليناً رقيقاً مهموساً فيه دمج بين عالم الأنثى وعالم الطبيعة، بل تتحول الطبيعة في هذا الشعر إلى أداة فنية تتجلى فيها نفسية الشاعرة المتوارية خلف النص. وتظهر في شعرها النظرة السحرية إلى المحبوب «الرجل» الذي اكتسب صفات خاصة بسبب طبيعة الأنثى الخجول التي لا تزال لا شعورياً تقيّد رؤاها بمفردات مواربة، تغيب صورة الرجل الحسية، فكأنه محرض شعري أكثر منه إنساناً حقيقياً، ولغزلها معجم خاص تكثر فيه الألفاظ العاطفية ذات المخزون النفسي الانفعالي كالدموع والقلب والجروح والهجر والشوق والأرق والهم والحنين، وتدفقت من «معجمها» ألفاظ أنثوية خاصة (العطور، الأريج، العقد، الحقيبة، الثوب الأنيق، الرداء الجديد)، ومن معطيات شعرها الجمالية التي تكشف عن إيحاءات نفسية وفكرية، ترقرق نسيجها الشعري بنبرة إشراقية تشع من مستويات عدة في القصيدة تزيد أشعارها صفاء وألقاً. وفي لحظات التوهج العاطفي تميل الشاعرة إلى الحكي أو السرد بوصفه قيمة مؤنثة فنراها تؤثر السرد بصياغة أنثوية تلوذ بها عزوفاً عن المباشرة وتحرجاً من التصريح».