الدفـــــع بالجملـــــــة.. ؟!
هذا عنوان استفزازي، غير مريح، ومعه كلُُّ يتفقّد نفسه،… لكن إخواننا في الخليج، ومع مرور الأيام والسنين لم يعد لهم مشكلة مع الدفع إذا كان بالمفرّق أو بالجملة، فـ «ما لجرح بميّت إيلام» – أقصد الحكومات.
مؤخراً، سرّبت بعض المواقع الالكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي مطالبة الرئيس ترامب حكامَ المملكة السعودية بمبالغ طائلة تمثّل انتقالاً من مئات مليارات الدولارات إلى التريليونات. وسواء أكانت هذه التسريبات صحيحة أم مبالغاً فيها، فالمنهج موجود وواضح بغض النظر عن الرقم، ولا يمكن لهؤلاء الحكام البرَم به أو رفضه، بل إن محمداً بن سلمان قال في زيارته لواشنطن إن الأرقام المطلوبة مبدئياً للتعاون هي قليلة، قالها وهو موافق وبابتسام أيضاً، وهذا ما شاهدته الملايين على الفضائيات.
فعلى رجال أمريكا من هؤلاء الحكام أن يسلّموا أولاً، بل أن يقتنعوا، بسلاسة ورحابة صدر، أن عروشهم وظيفية، وعليها أن تقبل الإملاءات دون مناقشة، ولذلك هي وكما يلاحظ الجميع اليوم بوضوح وبأدلة عليها أن تقوم في وقت واحد بتنفيذ عدد من الإملاءات، منها:
– دعم الإرهاب مالياً وبشرياً وفكرياً وإعلامياً.
– بالمقابل دفع تكاليف مزاعم مكافحة الإرهاب.
– والأنكى من ذلك قبول اتهامها بدعم الإرهاب، قانون «جاستا» الأمريكي: العدالة ضد الإرهاب.
– دفع تكاليف حماية العروش وهذا ما صرّح به ترامب علناً، وهو ما تم العمل عليه منذ عقود لكن لم يكن التصريح به واضحاً بهذه الوقاحة.
– تمويل حروب إقليمية في اليمن وسورية والعراق… وصراعات أيضاً مع الجمهورية الإسلامية، حروب وصراعات يُخطط لها لأن تكون طويلة تستنزف كافة الأطراف.
– تمويل الاستراتيجيات الصهيوأمريكية في المنطقة، ومنها “صفقة القرن”، هذا التمويل الذي قال فيه مؤخراً مستشرق صهيوني: كان واضحاً كيف تعامَل كوشنير صهر ترامب، وغيرنبلات مبعوثه إلى الشرق الأوسط، مع حكام الخليج كخدم من جهة، وكصرّافات آلية من جهة ثانية.
وفي الحقيقة فهذا الدفع ليس حديث العهد، بل هو يعود إلى أربعينيات القرن الماضي، وعليه بُنيت استراتيجية البترودولار «بيع نفط الخليج بالعملة الأمريكية مقابل حماية أمريكا لحكم بني سعود»: اتفاقية كوينسي عام 1945 بين الرئيس روزفلت والملك عبد العزيز آل سعود.
لكننا اليوم مع ترامب نشهد تطوراً مؤلماً لمفهوم الحماية، تطوراً لم يعد المؤلم فيه الدفع بالجملة فقط، بل الأكثر إيلاماً ما يرافقه من غياب مفهوم الاستقلال والسيادة، وتنفيذ استراتيجية مضادة لمصالح الشعب العربي والأمة الإسلامية، وما يقترن بذلك من محاربة المشروع القومي العربي وصولاً إلى دعم المشروع الصهيوني بشكل مباشر أو غير مباشر.
إن الدفع بالجملة استراتيجية تعدّى خطرها المبالغ المالية ليمسّ حقوق الشعب وقضايا الأوطان والأمة، وليهدد، بل يقوّض ما «كان» يسمّى الأمن القومي العربي، ولم يعد يكتفي بذلك إذ تورّط في تقويض الأمن الوطني والإقليمي، ومعه تجلّت نظرية «العدو القريب» الوهابية الجهادية إذ لم يعد الكيان الصهيوني عدواً أساسياً.. وقد رافق ذلك أن «الآخر هو الشقيق» وصار هذا الآخر أرضاً متوخاة لزرع الفتنة والأحقاد والتفرقة العرقية والمذهبية والعشائرية والفكرية المستدامة، وسبيلاً إلى البحث عن هويات جديدة غير وطنية، هويات تقوم على عصبيات وقوميات لم تكن حاضرة فيما مضى.
ميديا الخليج، ومراكز الأبحاث فيه، ومثقفو العمالة والارتزاق لا يكتبون في هذا، بل يتجاهلونه تماماً، وتساعدهم في ذلك مراكز الأبحاث في الغرب التي تشغل الناس بالسفاسف من السوشيال ميديا، وهذا ما يرتب على كاهل الثقافة الوطنية والعروبية، وعلى الأحزاب والمنظمات والنقابات الوطنية والقومية مهمات جديدة وأعباء كبرى عليها أن تنهض بها، وحتى اليوم تبدو ملامح عجزها أو تقصيرها عن ذلك واضحة ومؤلمة.
لكن هذا التقصير لن يدوم طويلاً، لأن غياب فعل الثقافة الوطنية التقدمية من أبرز أسباب الأزمة، غير أن الموعد مع عودة أصالة الوعي والهوية والانتماء قريب، فثقافة مقاومة المشروع الصهيوأطلسي الرجعي العربي رائدة وواعدة وهي تتقدم في الميدان، وفي العقول أيضاً، وقريباً سيدرك أبناء شعبنا وأمتنا في الخليج وفي غيره، أن دعم المشروع الوطني العروبي أقل كلفة، وأكثر حماية وضمانة لهم، وأوسع قبولاً، وأصدق رهاناً عند شعبنا في الخليج من استراتيجية الدفع بالجملة، وبالهوان أيضاً. ما يعني أن الصرخة التي دوت في القرن الماضي: بترول العرب للعرب، ليس مستحيلاً أن نسمعها قريباً وهذا واجب الثقافة والآداب والفنون والأحزاب والمنظمات التي عليها أن تنشر في الآفاق من بعض ما تنشره المعاني الكبرى المحفّزة لقول القائد الأسد في 20 آب 2017:
… وفي حسابات الربح والخسارة ثمن المقاومة أقل بكثير من ثمن الاستسلام.
د. عبد اللطيف عمران