من التنظيمي.. إلى الاجتماعي
في الواقع الصعب الذي نعيش لا بد من إعادة تنظيم جديدة للمجتمع يتم تحقيقها من خلال تفكير اجتماعي متجدد وديناميكي، أساسه الحوار والعمل ما أمكن على المرونة في قبول الآخر كطرح وكشخص وفق معيار أساسي ينطلق من مفهوم المواطنة المقترن بالواجبات الوطنية قبل الحقوق الفردية.
من هذا المنطلق كانت الأريحيّة والصدر الواسع والأفق الرحيب من أسباب اللقاءات العديدة والمتنوعة ولفترة طويلة للسيد الرئيس بشار الأسد الرفيق الأمين العام للحزب مع شرائح واسعة من المجتمع السوري ومن مختلف المحافظات، ومن مختلف التوجهات. لقاءات أسهمت لا شك في وضع توجهات وأسس عودة الوعي الاجتماعي والانتماء الوطني عند هذه الشرائح، ما عزّز دور المجتمع ومؤسسات الدولة في مواجهة الإرهاب والتطرف، والمؤامرة بالمحصلة، وعزّز بالتالي صمود الدولة والمجتمع.
وللأسف فقد صار لدينا – نحن العرب – في السنوات الأخيرة معجم مفردات جديد يختلف بدلالاته الاجتماعية والسياسية عما كان سائداً في القرن الماضي جرّاء تلاشي تيار التقدم والتنوير والعلمانية، التيار الذي يقوم عليه ويتعزز به المشروع الوطني العروبي، والذي هو بدوره يمثّل القاعدة الأساسية لتحقيق المشروع القومي، الذي بدوره أيضاً يئنّ اليوم تحت وطأة تقدّم المشروع الصهيوني الرجعي العربي.
في المعجم الجديد، غابت من أمام الأجيال الطالعة مفردات ومصطلحات النضال ليحل محلها الجهاد، والوطن والأمة ليحل محلها الإقليم والمذهب والعرق، وكذلك غابت مفردات الحداثة والتنوير مقابل ما يتصل بالماضي وبالبغيض منه… وهكذا فلم تعد تجد في واجهة المكتبات ولا في الميديا من يحتفل بالألفاظ البرّاقة للاشتراكية والتقدم والوحدة العربية والوحدة الوطنية، وكذلك النزعة العقلية، ومعطيات التفكير النقدي، وطروحات الحداثة وما بعد الحداثة.
وقد اقترن هذا الغياب بأزمة المجتمع العربي المعاصر من حيث الزمن والشكل لا المضمون، وبأزمة الدولة الوطنية التي استُهدفت مؤسساتها شرّ استهداف، وكذلك بأزمة المشروع القومي العربي الذي جعله التحالف الصهيوأطلسي الرجعي العربي في مهب الريح، ما سهّل أمام مراكز الأبحاث الصهيوأطلسية بطابعها الاستشراقي الاستعماري رسم ملامح جديدة لأشكال وأنماط الحروب الحديثة التي يجب أن تشنّها الامبريالية المتوحشة وذيولها في المنطقة على الدول والمجتمعات والمؤسسات والثقافة والهوية الوطنية والعروبية.
وللحقيقة والتاريخ، مثل هكذا واقع لا يدفع إلى اليأس والإحباط. فلطالما أسفرت هكذا تحديات فيما مضى من الزمن عن نهضة وطنية ويقظة عروبية، هذه النهضة وهذه اليقظة المنشودتان يقع عبء تحقيقهما وواجب إنجازهما – وكالعادة – على الأحزاب والمنظمات والنقابات والاتحادات الوطنية التي نهضت “سابقاً” وعززت مؤسسات العمل العربي المشترك.
في هذا السياق، أدركت قيادة حزب البعث العربي الاشتراكي ومؤسساته وكوادره أهمية العمل على استعادة الروح الوطنية الوثّابة المتطلعة على امتداد أرض الوطن إلى ضرورة مواجهة المؤامرة على المجتمع والدولة، على الوطن والأمة، على التراث والحاضر والمستقبل، على المبادىء والقيم والهوية، على الوعي والانتماء، المؤامرة التي لا شك أسهمت وكادت تنجح إن لم نقل نجحت في تصديع المجتمع، وفي ضياع وخسران قطاعات غير قليلة منه، ما جعل البعض يخلط بين مفهومي “العدوان” على سورية و”الأزمة” فيها، وما يتصل بذلك من خلط في مدلولات مفاهيم عديدة أخرى كالوحدة الوطنية والعيش المشترك، وكذلك الثورة.. إلخ، ما جعل البعثي اليوم يعلي من شأن “الاجتماعي” في المسألة التنظيمية. والاجتماعي ينهض اليوم وفق الضرورة الراهنة على الفكري والتنموي، أي على الاهتمام بالبنى الفوقية قبل التحتية.
ويبدو بوضوح أن الحزب نجح في هذه الاستعادة، وهو مطالب اليوم بتوطيد حضوره الاجتماعي أولاً ولو كان على حساب المسائل التنظيمية، وعلى أية حال لا تناقض هنا.
فلا يزال حضور البعث والبعثي مطلوباً، بل مرغوباً ومنشوداً، وقد بيّنت الوقائع الميدانية والاجتماعية في مختلف المحافظات والمؤسسات أن الناس تتطلع إلى هذا الحضور وتطمئنّ إليه وترى فيه ضمانة وأمناً وأماناً. فرغم قساوة الواقع لاتزال هناك قناعة بأن البعث هو المؤسسة الأقدر على رأب الصدع الاجتماعي، وعلى الانتقال من التحشيد “الجماهيري” إلى التحشيد “الشعبي” بمفهومه الأوسع، إذ لا قوّة سياسية منظمة مثله قادرة على إعادة إحياء فاعلية “المجتمع السياسي الوطني” الكفيل بدحر الفُرقة والتطرف والتكفير، وبالخروج من مناخ اليأس والإحباط واللامبالاة.
ويبدو أن العدوان على سورية غيّر في استراتيجية العمل الحزبي التي كانت سائدة في مرحلة الاستقرار السابقة التي اكتنفها فائض من الشعور بالاطمئنان والذي أدى بدوره إلى فائض من “التراخي”.
هذا قليل من كثير من الحوار الذي عرفته مداخلات الرفاق في الاجتماع الأخير للجنة المركزية للحزب والذي افتتح بكلمة توجيهية هامة وضرورية، فاعلة وواعدة للرفيق الأمين العام للحزب والتي يبدو أنها ستضع العمل الحزبي على المحك في قادم الأيام.
د. عبد اللطيف عمران
aomraan7@gmail.com