تحديات الهوية: من “الربيع” إلى التطبيع
يبدو أن التحديات الكبرى التي يواجهها العروبي اليوم، لم تعد تقف عند الحدود والجغرافيا وتباينات الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية من مواطن إلى آخر، ومن قطر إلى آخر فقط، بل طالت هذه التحديات الذهنية الوطنية والعروبية بما فيها مسألة التفكير في الوجود والمصير العابرة للحدود، في الوعي والانتماء، بالمحصلة في الهوية.
هذا الكلام لا يأتي في سياق التشاؤم، ولا الانتقاد المحض غير المقترن بالجدوى والبحث في إعادة البناء المعنوي الواعدة، بناء البُنى الفوقية الفاعلة والمؤهِّلة لمواجهة تحديات الهوية الوطنية والعروبية.
فقد طال الزمن الذي كنا نراهن فيه على الحتمية التاريخية التي ترى أن هكذا واقعاً – وكالعادة سابقاً – يفرز حالة من الوعي واليقظة والنهضة مشابهة لتلك التي عرفناها في مطلع القرن الماضي من حركة التحرر الوطني العربية، من منطلق الرهان على فاعلية وعي الشارع العربي وانتمائه ووطنيته وعروبيته.
فتقدّم المشروع الصهيوني “المدروس جيداً” يكاد يعصف بمقولة الحتمية التاريخية هذه، وتلك مسألة خطيرة تقبل السجال. فنحن، اليوم، أمام مشروع مضاد قوي للأسف بل وطيد الأركان مستمر في الفعل والتقدم بمفاعيله الهدّامة نحو الأمام، هو المشروع الصهيوني الآخذ في التمدد مقابل تلاشي المشروع القومي العربي بركائزه التي تبلورت وفعلت ونضجت وتقدمت في القرن الماضي، وهي اليوم في أضعف حالاتها، بل تسير من ضعف إلى آخر. هذه الركائز اليوم عِرضة للتداعي مقابل قدرة ذلك المشروع على صياغة تحالفات إقليمية ودولية آخذة في التمدد، من تحالف صهيو – أطلسي إلى تحالف صهيو – رجعي عربي… إلخ، في وقت تلاشت فاعلية قوى اليسار الوطني والعالمي، وكذلك التيار القومي العروبي، يضاف إلى ذلك وهو الأخطر العبث الكبير والهائل بالعلاقة بين العروبة والإسلام من خلال العمل على صياغة “إسلامويات” بعيدة عن الوطنية والعروبية بدأت أول ما بدأت على شكل “فوبيا” من الإسلام استشراقية ذات بعد مركزي غربي بصيغة عالمية معولمة.
فبعد تلاشي قوى اليسار العالمي، عمد الغرب إلى الانتقال في نهاية تسعينيات القرن الماضي إلى التعامل مع عدو جديد هو الإسلام، ولم تكن المواجهة وجهاً لوجه، بل من خلال الخرق والتوظيف والتفريق بين الإسلام كتيارات عديدة، وليس كدين توحيد ذي أفق حضاري. فتم إثر ذلك الانتقال مباشرة إلى توظيف خطير للإسلام في مواجهة الحياة الوطنية والقومية في الأقطار العربية بهدف تعزيز عوامل التناقض بين العروبية والوطنية من جهة، والإسلامية الأممية الجهادية العابرة للحدود الوطنية من جهة ثانية… ويكاد يكون هذا الهدف ناجزاً اليوم.
من هذا القبيل سارت الأيام والسنون الثمانية الماضية بما فيها من متغيرات يدّعي التحالف الصهيوأطلسي وذيوله في المنطقة والعالم أنها متغيرات واعدة وشرعية ومشروعة نحو الأفضل، على أنها “ربيع”، وحملت هذه المتغيرات قوى وتيارات غير مستنيرة، بل ظلامية رجعية متطرفة وتكفيرية، وبالمحصلة إرهابية. راهن هذا التحالف وكاد يقنع الناس في صواب رهانه عليها لتحقيق الحرية والتقدم والعدالة “المنشودة”…؟! وكان المشهد الظلامي لا شك واسعاً وفاعلاً ومدمراً ليس في البنى التحتية فقط بل الأكثر خطورة في البنى الفوقية: الوعي والانتماء والهوية.
أتى هذا في سياق استهداف الأقطار العربية التي كان يُراهن على قدرتها في دفع المشروع الوطني والعروبي إلى الأمام: مصر، الجزائر، العراق، لبنان، فلسطين، تونس، سورية، اليمن، ليبيا، وعليك أن تعرف من بقي بمنأى عن الاستهداف – مرحلياً – من الممالك والمشيخات.
وعلى هذا الأساس حدث انحراف أو انزياح في حمل المشروع القومي العربي، وهكذا صارت الجامعة العربية ومؤسسات العمل العربي المشترك، والملتقيات والمنتديات الفكرية والسياسية أسيرة البترودولار، وملاءة “الخليجية السياسية”. فتلاشى دور الحَملة التقليديين، وهم البناة الحقيقيون للتيار النهضوي الوطني والعروبي.
وإذا لم نحسن – كتيارات وأحزاب وطنية وقومية علمانية – قراءة الواقع فهذا مشكلة، وإذا قرأناه وبقينا على هذه الحال فالمشكلة أكبر، ونحن نرى مشهد التغيير الاحتجاجي العربي “الربيع المزعوم” بحوامله “الإسلاموية” المتطرفة التكفيرية تمضي فيما هي عليه من حالة وظيفية هدّامة عروبياً وإسلامياً، خادمةً لما بدأ يسفر عنه هذا المشهد من نقل سفارة الكيان إلى القدس، والإعلان عن صفقة القرن، وخروج مسارات التطبيع من السر إلى العلن، خروجاً آخذاً بالقبول تدريجياً لنصل إلى حكومات، بل أجيال، تكاد تستمرىء مع الزمن التطبيع، مع إعلان قادة العدو عن مسوغات هذا القبول عند ضعاف الرأي والوعي، وادعاء أن “إسرائيل” موجودة بالفعل والواقع كقوة فاعلة في الشركات العالمية الكبرى وكذلك في مطابخ السياسة الدولية.. وهكذا كان انعكاس العلاقات البينية العربية والإسلامية المتأزمة على مسوغات التطبيع، فيمّم الخونة وجوههم شطر الكيان.
وعلينا كواجب أساسي أن ننظر إلى الغرب كيف استطاع أن يجعل من المتأسلمين أُجراء للعمل على أن يكون الإسلام خنجراً يطعن في الظهر الحياة الوطنية والقومية، لينتقل الطعن من الظهر إلى النحر. وليكون الربيع مقدمة بحوامله المتطرفة والتكفيرية إلى التطبيع وصولاً إلى صياغة هويات جديدة قاتلة لهذه الحياة. تقترن بانشغال العرب والمسلمين والعالم بالتافه من القضايا المفتعلة منها على سبيل المثال مقتل الإخونجي خاشقجي أنموذج الجيل الجديد الذي يُعدّ في البيت الأبيض ليكون أخطر من القرضاوي الذي رثاه… وهكذا.
في هذا السياق تأتي أهمية إعادة قراءة تركيز القائد الأسد في السنوات الأخيرة – أكثر من ذي قبل – على الخروج من إشكالية العلاقة بين العروبة والإسلام، إلى عضوية هذه العلاقة، في إطار اهتمام سيادته بضرورة تحصين المشروع الوطني العروبي المقاوم للعضوية المقابلة من العلاقة بين “الربيع” والتطبيع، تحصيناً يحمي الهوية والوطنية والعروبية، والإسلامية التاريخية الحضارية أيضاً.
وفي هذا السياق أيضاً، يتم العمل على تأطير المؤسسة الدينية وطنياً وعروبياً، لتنهض بواجبها – وهي يجب أن تكون قادرة بعد السجالات الأخيرة – في مَنعة المجتمع الوطني لتكون ويكون هو معها عصيّاً على الاختراق، قادراً على حصد النتائج الطيبة من أصالة الوعي والانتماء، هذه الأصالة المؤهلة للنجاح في مواجهة التحديات التي تتعرض لها الهوية الوطنية والعروبية. فمواجهة الخرق والتوظيف الغربي للإسلام لاتنجح إلا بـ “توطين” المؤسسات الدينية وطنياً وعروبياً.. ومن المفيد النظر في أسباب مفارقة وضع الإسلام والمسلمين بين أفغانستان وماليزيا مثلاً.
د. عبد اللطيف عمران