عندما تحسس “غوبلز” مسدسه
عمت مرحلة ما بعد اتفاقية كامب ديفيد التي جعلت من مصر أم الدول العربية، أول دولة عربية تُقدم على معاهدة سلام مع العدو الاسرائيلي، موجة انحطاط ثقافي وفني وفكري، كانت قد مهدت لها الطريق نكسة ال 67 وما تلاها من خيبات جماهيرية وشعبية وفكرية عبر عنها شعراء تلك المرحلة وكتابها ومثقفيها، بتقديم الشخصية العربية المهزومة العاجزة التي لا تصلح للنهوض بأي حركة فكرية ثقافية، ليجيء حال المثقف العربي في تلك الفترة، رغم أهميتها وخطورتها، جنائزيا عموما في توجهه نحو محاكاة متغيرات ذلك الوقت.
إلا أن عبارة “غوبلز” الشهيرة: (كلما سمعت كلمة مثقف تحسست مسدسي) – وفي مقال أخر “ثقافة- والتي ثار عليها الكثير من المثقفين الأوروبيين والعرب، لم تكن لتصبح بمثابة المثَل الشعبي، لولا أن الناس عموما، لمسوا صدقها وجديتها، وإلا لما حفظها وجدانهم الشعبي، حتى لغير المشتغلين بأي حقل ثقافي، وربما يقولها أحدهم وهو يعتبرها حكمة عربية، ذاك أن الأيام اثبتت أن واقع المثقف العربي عموما، في الماضي القريب وفي الفترة المعاصرة، وأداؤه “النكسوي”، تجاه قضايا الناس الذي هو منهم، اكد بما لا يدع مجالا للشك، أن غوبلز كان محقا فيما ذهب إليه؛ التعميم غير وارد طبعا، إلا أن المشهد العام الذي تكشفت عنه الحقائق في العقود الماضية القريبة، خصوصا في العقد الأخير، أماط اللثام تماما عن معظم ممن يسمون “مثقفون”‘ خصوصا (اليساريون منهم)، والذين سرت عليهم نكتة قديمة منذ الأحداث المخزية والدموية لـ”الأخوان المسلمين” والذي هم لا أخوانا ولا بمسلمين، ومفادها أنها تجمع بين شعار “الماركسية” المأخوذ من البيان الشيوعي الذي كتبه كارل ماركس وفريدريك أنجلز سنة 1848: (يا عمال العالم اتحدوا)، وبين عقلية الفكر الديني المتطرف، لتحور الشعار ويصبح بتشابكه مع العداء الذي تكنه الأديان جميعا للماركسية، فصار وفقا للمصالح والأهواء الشخصية: : (يا عمال العالم صلوا على النبي)، ما يعني أنه-أي المثقف عموما- يبدل القناع الذي يرتديه، حسب الحاجة أو الطلب، وليصبح من كان يريد تغيير العالم إلى الأفضل والأكثر عدلا ومساواة، من أكثر المحرضين على القتل كما رأينا وسمعنا في السنون الـ8 المنصرمة، وليغير البندقية من كتف إلى كتف، دون أن يرف له جفن؛ ويُحرف الكلمة من معنى أصيل إلى معنى مبتذل ووضيع، للمنفعة المادية والشخصية، فالعديد من هؤلاء لم يبق لهم إلا أن يقفوا خلف “البغدادي” ويدعون أنه إمامُ صلاتهم وعلمهم، حتى ولو كانوا من دين سماوي آخر، وفي الوقت الذي كانوا فيه يُظهرون للعلن وفي أي محفل حتى ولو كان “طهور الصبي” أنهم عرضة للاضطهاد والملاحقة وغيرها، بسبب أفكارهم “الثقيلة” ومواقفهم (المصيرية) كما زعموا ويزعمون، تبين لاحقا أنها لم تكن إلا ترهات، تنطق بحجة مخزية تشبه حجة “عرج الجمل من شفته”، ولو كان هؤلاء (المثقفون)، صادقون في نتاجهم الفكري الذي أدعوه، لما وصلت الحال في البلاد العربية عموما، إلى ما وصلت إليه، ذاك بعد أن اكتشف الشارع العربي حجم الجهل – العدو الأول للإنسان- الذي سببه هؤلاء في نفوس الناس، من غرسٍ عميقٍ للوهن والخيبة والانكسار وحتى الخنوع في نفوسهم، بل وصار لديهم نفورا من الثقافة بشكل عام. وهذا ما دلت عليه، الدراسات والإحصائيات العلمية، من ابتعاد للجمهور عن معظم اشكال ثقافته، فإن كان فلانا ما باسمه (العالمي)، وغيره ممن ينهجون ذات النهج في مفهوم راقٍ كالثقافة، على هذه الشاكلة، فكيف إذا ستكون حال الثقافة التي يصدرونها للناس، كما لو أنها واجهة أو “بروظة”؟، وكيف سيأمن الإنسان شرورهم فيما ذهبوا إليه بما هو أشد من القتل؟ – لم يكن ينقص مثلا السيد ميشيل كيلو، إلا أن يقعد في حضن الجولاني- أو مارسيل خليفة، الفنان (الثوري-العاطفي)، أيضا صار حسب الطلب والعرض، بما ذهب إليه في تعامله مع المتغيرات المعقدة التي أصابت الجسد العربي، وليصبح كل فنه وإرثه وتاريخه، قبض الريح، بعد أن قبض بـ”لدولار الأسود”، أحدهم وهو المخرج “أسامة محمد”، الذي وقف في أرقى محفل فني “حفل الأوسكار” ليشتم بلده، فقط ليقف ويتكلم بما تم أمره به، مضيعا فرصة مهمة لتصدير حقيقة ما يجري في الوطن، الذي رباه وعلمه وحماه وأطعمه، ورضي بمحبة أن ينتج أفلامه المعتوهة “صندوق الدنيا” مثلا الذي بقي يصوره لمدة 8 أعوام، وهو كما اسلفنا، ليس معروفا إن كان فيلما أم كابوسا بصريا مريع الهيئة؛ هؤلاء وغيرهم كثر، سقطوا من أعين الناس، وصاروا في عينهم من الشياطين، لا البشر.
عموما حال المثقف العربي والسوري اليوم، لا يُطمئن، خصوصا وأن أجيالا كبرت ووعت العالم في زمن الحرب، وكما يقال: (الحرب تُخرج أسوأ ما في الإنسان)، وقد فعلت بهذه الشريحة الهشة أفعالها، وأخرجت منها ما أخرجت من سموم وقيح، وعندما اُمتحنت القلوب وكانت الموازنة بين الأوطان والدولارات، فاز الأخضر المتشح بالسواد النفطي عندهم، دون أي تردد، أما اليوم وبعد أن قال الرجال الرجال كلمتهم حقا على أرض الوطن، قلتخرس كل تلك الألسن التي تثير الاشمئزاز، وليخرس معها من يمولها من دماء شعبه، وليخرس معهم أيضا، كل من اعتقد أنه يستطيع النيل من هذه البلد وأهلها، طالما أن مثقفها الأكبر والأهم والأعظم، قد قال كلمته وانتهى الأمر، فالسَّيْفُ كما يعرف ويؤمن به هؤلاء الرجال العظام، أَصْدَقُ إِنْبَاءً مِنَ الكُتُبِ.
تمّام علي بركات