الدراما العثمانية والانسحاب الأمريكي
لمن يذكر، بدأت موجة الدراما التركية المدبلجة على الشاشات العربية، بمسلسلات رومانسية عموما، وفيها جرعة من الإثارة يرتفع “دوزها” رويدا رويدا، حتى صار المشاهد العربي عموما، متقبلا للموضوع؛ أي متقبلا وبكل سرور، لحلول دراما تلفزيونية أخرى عوض درماه الضعيفة؛ من خلال حكاية رومانسية وفيها بعض “الأكشن”، مع عرض مبهر للمناظر الطبيعية الخلابة، و الديكورات الفخمة للبيوت ولحياة أولئك الناس الذين يحيون ضمن هذه الحكاية، وبما أن الدراما محاكاة للواقع في بعض شؤنها وربما الأهم، صار المشاهد العربي يتعلق بتلك الأعمال، “لميس ومهند” مثلا ويتابعها بشغف، ثم عملت للدخول في تفاصيل الحياة اليومية للمشاهد العربي، الذي وجد فيها ملاذا من الواقع المحبط المحيط به، إلا أن هذه الدراما لم تتوقف عند قصص الرومانس والعلاقات المغرية والجذابة، المُقدمة بجرعة إثارة غريزية فيها ما فيها من سفاح القربى وغيره، فلقد انتقلت هذه الدراما من كونها رومانسية وغرام وهيام، إلى دراما “عثمانية” بحتة، مدروسة ومخطط لها، تتصاعد أحداثها رويدا رويدا ، لتظهر مسلسلات عن أهم السلاطين العثمانيين، الذين احتلوا المنطقة العربية في عهود الحكم العثماني، إبان الانحدار السريع للحضارة العربية، ولفنها الأهم، الشعر، وهكذا صارت أي -الدراما التركية-، دراما “عثمانية”-، مغروسة في الوعي الجمعي العربي إلا بعض الاستثناءات، وهذا ليس من باب الصدف ومساوئها أحيانا، خصوصا إذا ما عرفنا، أن الدراما التركية-العثمانية، تأتي بالمرتبة الثانية بعد الولايات الأمريكية المتحدة، في قائمة أكبر مصدري الأعمال الدرامية التلفزيونية، ففي عام 2016 بلغت صادراتها 350 مليون دولار من هذه الأعمال، التي صدرتها لأكثر من ثلاثين بلد مباشرة، وعن طريق قنوات عربية معروفة، بعد أن كانت هذه الصادرات بقيمة 4مليون دولار عام 2004.
انتبه.. الاتراك لخطورة تأثير الدراما على الناس، فجعلتها واحدة من صناعاتها الوطنية الثقيلة، صناعة مدروسة، ومخطط لها وللكيفية التي يجب من خلالها أن تتفوق على الدراما العربية ذاتها عند المشاهد العربي، وهذا حصل، فبعد أن بدأت بأعمال “خفيفة نضيفة” كما ظهرت في البداية، بقيت تتصاعد موضوعاتها مع المحافظة على الجانب الجذاب فيها، من الممثلين الوسيمين والصورة المبهرة بتوظيف الطبيعة البديعة فيها، لتصل فيما بعد إلى أعمال درامية تجعل السلطان العثماني “سليم الأول” على سبيل المثال، وكأنه أطهر وأشرف وأهم رجال الأرض، وأن العالم الذي كان يحكمه، كان الأفضل في كل شيء، من الناحية الاجتماعية والسياسية، والواقع عكس ذلك تماما، فكلنا أو معظمنا يعرف الفظائع التي ارتكبها الولاة العثمانيون في الدول العربية، إلا أن هذه الدراما موجهة لتطمس هذه الذاكرة، والعمل على إنتاج مكرر للحلم العثماني، مستغلين بذلك جهل العرب عموما في قراءة التاريخ، والقراءة عموما كما صار جليا وواضحا في أمة كل ناطق بالضاد،، فصار مسلسل “تاريخي _عثماني “ما، هو من يقدم المعلومة أو يمرر الفكرة التي يريد تمريرها بكل خبث ودهاء، مقابل طمس المعلومة الحقيقية وغسلها في دماغ المشاهد، وليس من باب الصدفة أن نعلم أن عموم السوريين الذين وقفوا مع الإرهاب التركي منذ 8 سنوات حتى الآن، هم من مؤيدي عودة هذا الحكم، بل ويقتلون أشقائهم في الوطن، تحت مسمى “الحلم العثماني الكبير”، الذي بدأته الدراما التلفزيونية، كما لو أنها تُمهد له، إلى أن حصل على أرض الواقع ما حصل.
لكن ما علاقة الدراما التركية بانسحاب الاحتلال الأمريكي كما يدعي من البلاد؟
الأمريكي يدرك تماما ماذا يفعل التركي، إلا أن اللعبة التي يلعبها التركي، الأمريكي هو الأكثر خبرة فيها، وعوضا عن مسلسل انسحاب أمريكي فعلي من المنطقة المُحتلة في البلاد، سنشاهد أفلاما ودعايات تصور هذا الانسحاب المخطط له، ليصير خبرا روتينيا فقط، وبعضا من الصور المشغول عليها بحرفية عالية، لتؤكد هذا الانسحاب الوهمي، و أنه سيكون بشكل تدريجي، وهذا “التدريجي” كحال الدراما التركية، بدأ ببضعة جنود أمريكيين من المارينز في شمال سورية، ليصبح اليوم وجودا له كيان قائم ومعقد، والصراع الأمريكي في الكونجرس الأمريكي، بين من يؤيد الانسحاب وبين من يرفضه، ليس إلا تمثيلية أخرى من التمثيليات السمجة، والتي صارت معروفة للجميع، كما صار حال تطور الدراما التركية، بداية خجولة، ثم تغلغل مبدئي في المجتمعات العربية، خصوصا وأنها تقدمها باللهجة الوحيدة التي لاءمتها –أي الدراما- ألا وهي اللهجة الشامية، التي ما من عربي إلا ويعرفها ويفهمها كلهجة معروفة ومحببة لديه، بعد أن تعلمها تماما من أعمال الدراما السورية، التي بدأت ستينات القرن الماضي، فلقد حاولوا أن يقدموا دراماهم باللهجة الخليجية فلم تنجح، وأيضا لم تستطع الدراما العثمانية الجديدة، أن تلم شمل المشاهد العربي، عندما استخدمت لدبلجتها اللهجة المصرية، ولتعد مرة أخرى تلك الدراما إلى التوهج، بعد أن خفت بريقها تماما، و لو لم تنقذها اللهجة الشامية، والتي كما قلنا يعرفها معظم العرب من لهجتها الأليفة لأسماعهم، -وهذه اللهجة أي “الشامية”، تتصف بكونها سلسة وسهلة الولوج في النفس لرشاقتها ولخفتها باللفظ، وللعديد من الصفات والميزات التي تمتلكها، وهذا حديث أخر-، لانتهت موجتها الآن، لكن هذا لم يحدث.
أيضا الدراما الأمريكية الواقعية، تواتر صعودها كما قلنا، من دخول خجول في البداية، من ثم التوسع التدريجي بحجة حماية مصالحها في المنطقة، إلى احتلال كامل لمناطق بعينها، وما الانسحاب منها، إلا دراما أمريكية أخرى، لم تعد خافية على أحد منذ احتلال العراق، إلى احتلالها لمناطق بعينها، في البلاد العربية عموما، والتي يصفها “الأشقاء”، بكونها قاعدة عسكرية فقط، وهذه القاعدة التي ارتضوا أن تكون موجودة وبكل حرية على أراضيهم، هي الحاكم الفعلي في تلك الدول، فهي من تصنع رؤسائها، وتصيغ بطريقتها وحسب مصلحتها، الوقائع التي تريد أن تصدرها للعالم، بينما الحقيقة هي على العكس تماما.
الدراما العثمانية والانسحاب الأمريكي، وجهان لعملة واحدة، في السطو على مقدرات الشعوب، فما الأولى إلا خطة مدروسة للتصعيد في المنطقة، باكتساح وعي شعوبها تمهيدا لاحتلالها، وما الثانية – أي انسحاب قوات الاحتلال العسكري الأمريكي من سورية-، إلا ” علاك” مصدي، أو (فيلم أمريكي طويل)، نعرفه منذ احتلالها للعراق، البلد الجار والشقيق، الذي بقي فيه ما بقي من قواتها، رغم إعلانها الانسحاب التدريجي منه، والذي لم ينتهِ حتى اليوم!، وفي الوقت الذي كان من الواجب والضروري فيه، إيقاف الأعمال الدرامية التركية-العثمانية-على الشاشات العربية عموما، حدث العكس، فهذا الإيقاف يحتاج لصناعة درامة عربية حقيقية ومهمة ومدروسة ومخطط لها، تحل محلها وتطردها تماما من ذهنية المشاهد العربي، وهذا لم يحصل للأسف، لأسباب مختلفة، منه ما هو سياسي تماما، إلى ما هو غريزي وغيرها من الأسباب التي ساهمت شاشات “الأشقاء” في تكريسها، كما ساهمت تماما بتكريس الاحتلال الأمريكي، وتصويره على أنه الحلم المنشود، بينما الحقيقة الفعلية لما جرى ويجري في المنطقة العربية، صارت قبض الريح، وكأنها لم تكن.
تمّام علي بركات