مساحة حرة

العالمية تبدأ من عتبة بيتي

“العالمية تبدأ من عتبة بيتي” الجملة الشهيرة للشاعر الداغستاني الراحل “رسول حمزاتوف”-1923-2003-قالها وهو على قناعة تامة بأن اللهاث وراء العالمية، سيبقى لهاثا دون جدوى، إن لم يكن المنجز الإبداعي للأديب أولا، ينطلق من بيئته، وينتشر من أصغر دائرة في هذه البيئة، إلى الدائرة الأكبر التي تمثل وطنه، ومن بعدها إلى خارج حدود بلاده ومحيطه القريب والبعيد، فالعالمية التي يسعى العديد من الأدباء العرب باختلاف منجزهم الأدبي، للوصول لها، وإن لم يكن هذا التسلسل ينطبق فعليا على أرض الواقع، فكيف سيصبح الشاعر “س” مثلا، شاعرا عالميا، يترجم نتاجه الإبداعي إلى أكثر من لغة، إن كان أهل بيته لا يستسيغون ما يقول، وإن كانت الدائرة الأكبر، أي مجتمعه وجغرافيته الطبيعية، لم تعرف شيئا عنه وعن ما جادت به قريحته؟ ولا شعبية حقيقية بين أبناء جلدته ذاتها؟

إلا أن العالمية ومغرياتها اعمت العديد من (الأدباء) العرب الذين طاردوها من مكان إلى آخر، واهتموا بالشكل على حساب المضمون، وسعوا وراء الجوائز، وتم صنعهم كنجوم أكثر من كونهم أدباء، وذلك على الفضائيات وفي الصحف المفتونة بما هم عليه من شهرة خادعة، ليحل الشكل عندهم عوض المضمون، وصاروا يكتبون أشعارهم الغرائبية من بلاد بعيدة، تحت وطأة الحنين وهم في منفاهم الاختياري، وهي الحالة المثالية لكونهم نجوما في الشعر، لم تعترف بلدانهم بإبداعهم، وعندما غادروا البلاد مختارين المنافي الاختيارية لا الإجبارية، كما روجوا وقدموا أنفسهم للناس ليكسبوا ودهم، حتى صارت مقدمة أي حديث يدلون به، هي عن كونهم شعراء المنافي العريقة، وذلك في بداية خوضهم في أي حديث، للزيادة في اللمعان والبهرجة أمام جمهورهم المحدود، خصوصا إن كان شارعهم لا يفهم نصفه أو أغلبه، ما يكتبون من هلوسات على أنها شعر من طراز خاص، وتلك القصيدة الغير مفهوم منها حتى فكرتها اليوم، لم تُكتب لأجيال سواء من الماض أو من الحاضر، فما يجودون به، لن يفهمه إلا (النخبة)، التي تعمل على تقليدهم في الذهاب نحو الشكل على حساب المضمون أيضا،  وبعضهم يقولون ما لا يفعلون، كما تم وصفهم غير مرة، يطاردون العالمية ويخطبون ودها بكل خضوع المحب للمحب، عوضا التركيز على أن يكونوا شعراء بلادهم أولا، متوسلين في ذلك كل أنواع ما تتطلب هذه العالمية من تنازلات، ليس بدءا بالتزلف وليس نهاية أيضا بالتطبيع مع العدو بغيتها، دون أن تكشر لهم هذه العالمية عن ابتسامتها الصفراء، والعالمية التي كانت تجيء كحالة طبيعية لشهرة الأديب التي صنعها من خلال منجزه الإبداعي كحال العديد من الكتاب العظماء، لم تعد تجيء بهذا الشكل، بل يجب أن ترتبط بالجوائز العالمية، وكلما كانت الجائزة ثقيلة كان الأديب أكثر عالمية، وهكذا صارت جائزة نوبل هي أهم الجوائز التي يجري خلفها ذاك الأديب أو غيره، ساعيا ليكون مُعترفا به لا من وسطه وبيئته ومحليته، بل من قبل هيئة حكام جائزة نوبل، الجائزة المسيسة حتى نقي عظامها، وإن نظرنا إلى من مُنحت إليهم من عالمنا العربي، فسنرى أنها منحت لهم مقابل مواقف فيها ما فيها من الهوان الذي لا يليق بالأديب، وإن كان الأديب الوحيد الذي فاز بها من كل العالم العربي، هو “نجيب محفوظ” 1911-2006- الذي فاز بها عام 1988 بعد مواقف سياسية لا تجد في التطبيع مع الكيان الصهيوني أي مشكلة، عدا ذلك لم ينلها أي أديب باختلاف أنواع الأدب الذي يجود به، سواء كان رواية أو قصة، مسرحا أو شعرا، وهكذا صارت العالمية التي وصل إليها الكثير من أدباء العالم، وهناك من لم يقبلها أساسا، منهم الشاعر والروائي الروسي “بوريس باسترناك” -1890-1960- خصوصا وأنها باتت مرتبطة بالجوائز العالمية التي تُمنح من قبل الغرب، لشروط، صار العالم واثقا من كون الإبداع يأتي في ذيل قائمتها.

الغريب أن العديد من الشعراء السوريين، صاروا عالميين دون حاجتهم للفوز بأي جائزة، فها هو “نزار قباني” يعرفه العالم كله تقريبا، حتى أن محرك البحث غوغل، قام بوضع صورته عوض اللوغو الخاص به، في يوم ذكرى رحيله، هو وغيره من الأدباء الكبار، الذين تجاوز نتاجهم الإبداعي المحلية نحو العالمية، وكان أحد النقاد قد روى حادثة جرت معه في بريطانيا، عندما تفاجئ بأن واحدة من المؤسسات الثقافية العريقة في بريطانيا، كانت تحتفل بالأديب الراحل “محمد الماغوط”، لكونه من الأدباء الذين أثروا التاريخ بما قدموه، وما زاد استغراب الرجل، أن الاحتفال لم يكن مقتصرا على الجالية السورية هناك، حتى أنها لم تكن من قام بهذا التكريم، بل العديد من الكتاب والشعراء والمثقفين البريطانيين، الذين أرادوا الاحتفال بهذه الشخصية المبدعة العابرة للحدود وبشكل طبيعي، دون معارف هنا أو تنازلات هناك، كما فعل العديد من (الأدباء العرب)، في محاولتهم لتحقيقها دون جدوى، ودون أن يتعظوا من القول الشهير: إن أردت شيئا بقوة، فدعه يذهب، فإن عاد فهو لك، وإن لم يعد، فإنه لم يكن لك من الأساس.

تمّام علي بركات