تحصين العقل
غزا وباء الأيديولوجيات المتطرفة العالم ولا يزال يتفشى، وعزا بعض الباحثين السبب إلى طريقة التعليم، كما أشاروا إلى أن الحل يبدأ منه، لكن الصورة قد تكون أكثر تعقيداً، وفي الواقع هناك عدد كبير من المتطرفين العنيفين يحملون شهادات جامعية، وتحمل أعداد متفاوتة منهم شهادات في الهندسة والطب وشهادات تقنية أخرى.
وتتزايد معضلة التعليم في العالم العربي، فهو يساعد في خلق بيئة طلابية جهادية، خاصة وأن هناك فروقات في طريقة تعليم ومناهج العلوم التقنية، وعلى رأسها الاختصاصات الهندسية، وطريقة تعليم ومناهج العلوم الإنسانية والاجتماعية، فالأولى تحث على تبني نظرة “ثنائية” للعالم، والثانية تحث على التفكير النقدي الذي يؤدي بدوره إلى بناء شخصية عقلانية عصية على الوقوع في براثن التطرف.
كتب مارتن روز، وهو خبير في شؤون الشرق الأوسط في المجلس الثقافي البريطاني، ورقة عمل بعنوان “تحصين العقل” ويتناول فيها الأبحاث الجارية في العوامل المعقدة التي تؤدي إلى تطرف الأفراد. وتشير الورقة إلى احتمال وجود روابط بين تدريس مواد معينة وبين العقلية المغلقة للمتطرفين الذين يدرسونها. ويمكن القول إن هذه الورقة توضح أن تغيير طريقة تعليم بعض المواد والتشجيع على التساؤل واستكشاف وجهات النظر البديلة، إلى جانب تحسين التعليم في العلوم الإنسانية والاجتماعية، بإمكانه أن يساعد في “تحصين العقول” ضد التطرف.
وفي حين يسود الظن القائل بأن أغلب المتطرفين غير متعلمين، إلا أنه مجرد اعتقاد قاصر ولا يستند إلى أساس علمي، فهناك عدد كبير منهم مؤهل تأهيلاً عالياً، حيث وجدت إحدى الدراسات التي أجريت عام 2007 أن 48.5٪ من الجهاديين الذين تم تجنيدهم في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا كانوا يحملون شهادات جامعية، وأن 44٪ منهم درسوا الهندسة. وعند إلقاء نظرة على الإرهابيين أمثال أسامة بن لادن ومحمد عطا وسفاح سوسة سيف الدين رزقي (جميعهم يحملون شهادات في الهندسة) وثيودور كازينسكي المعروف باسم “مفجر الجامعات والطائرات” (دكتوراه في الرياضيات)، نجد أن الدلائل التي طرحتها الورقة تنطبق عليهم وتشير إلى أن تعليمهم قد يكون عاملاً.
العقلية الهندسية
يشدد روز على أن فلسفة التعليم في العديد من بلدان العالم وخصوصا الشرق الأوسط تعتمد على طريقة التعلم عبر الاختبار والامتحان عوضاً عن التفكير الإبداعي والنقدي، حيث أن ذوي الدرجات المرتفعة يستطيعون الالتحاق بكليات العلوم التقنية والطبيعية، بينما يتوجه الحاصلون على درجات أقل إلى العلوم الإنسانية والاجتماعية تلقائياً، كما أن الاعتقاد الغالب في المنطقة أن الهندسة والطب والاختصاصات التقنية الأخرى متفوقة على غيرها، ما أدى بدوره إلى تهميش العلوم الإنسانية والاجتماعية، عداك عن أن شبح البطالة يخيم على الطبقات الوسطى المتعلمة في منطقة الشرق الأوسط، وهو عامل أخر.
بيد أن هذه العوامل وحدها لا يمكنها أن تفسر التطرف، فالاختصاصات التقنية يبدو أنه لا يتم تمثيلها بنفس القدر بين المتطرفين غير العنيفين، وفي اعتقاد روز يشير ذلك إلى أن تبني العنف يحتاج خطوة إضافية ترتبط بتدريس بعض المواد التي لا تشجع على التشكيك بالأفكار المتلقاة ولا تحث على البحث عن حجج ووجهات نظر بديلة. وتتبع روز دراسات أخرى ليستخلص منها أن هناك عقلية معينة، سماها “العقلية الهندسية”، تنجذب إلى الحلول البسيطة وانعدام الغموض، وهذه العقلية سريعة التأثر بالتطرف.
ويحاجج روز أن أصحاب هذه العقلية ينجذبون في الأساس إلى اختصاصات معينة، لكن أسلوب التعليم يعزز هذه العقلية ويقويها، ويشير الكاتب إلى أن تدريس العلوم الاجتماعية والإنسانية له تأثير إجابي في الحد من التطرف، حتى بالرغم من أن خريجيها يعانون من البطالة أكثر من غيرهم، وعليه يمكن استنتاج أن الدراسة الحرة للعلوم الإنسانية بإمكانها أن تشكل حائطاً منيعاً في وجه التطرف، وهذه حقيقة يؤكدها تحريم تنظيم “داعش” دراسة الحقوق والفنون الجميلة والآثار والفلسفة والعلوم السياسية وغيرها.
وعلى خلفية هذا الاستنتاج يقترح الكاتب أن أحد الحلول هو إضافة مواد إلى الاختصاصات المذكورة تشجع على النقاش والتشكيك والتفكير النقدي والإبداعي، بعبارة أخرى، يجب تعليم الشباب “كيف يفكرون وليس بماذا يفكرون” لتحصين عقولهم أمام خطر التطرف.
إعداد: علاء العطار