بحث أكاديمي عن “نشوء حزب البعث”
كانت البدايات الأولى لنشوء حزب ( البعث العربي ) في مرحلة ما بين الحربين العالميّتين، وبعد أن أخفق النضال الوطني في جميع بلدان الوطن العربي عن تحقيق الاستقلال الوطني لأيّ بلد عربي في مواجهة الاستعمار القديم البريطاني ـ الفرنسي. فقد خضعت بلدان المغرب العربي للحكم الفرنسي، في حين خضعت ليبيا للحكم الإيطالي. أمّا في الجناح الشرقي للوطن العربي فقد أخفق النضال الوطني في كل من مصر وسورية ولبنان والعراق والأردن وفلسطين في تحقيق الاستقلال الوطني التام. وبينما خضعت بلدان الخليج العربي للحكم البريطاني بصفة محميّات تمتّعت اليمن والمملكة العربية السعودية بالاستقلال، ولكن في إطار عزلة عن جميع أشكال التطور الاجتماعي والاقتصادي والسياسي.
أمّا على الصعيد الدولي فقد انقسم العالم بعد هزيمة ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية إلى معسكرين رئيسين؛ ففي حين مثّل الاتحاد السوفياتي المعسكر الاشتراكي، مثّلت الولايات المتحدة الأمريكية المعسكر الإمبريالي بعد أن برزت كوريثة للاستعمار القديم، وبين هذا وذاك شهدت شعوب آسيا وأفريقية تحركات وتحولات كبرى بعد أن تعاظم نضالها من أجل التحرّر والتقدم.
في مثل هذا الجوّ الدولي والعربي العام، نشأ حزب ( البعث العربي ) في سورية، وكان استمراراً لحركة القومية العربية في نضالها ضدّ الاحتلال العثماني ومن بعده ضدّ الاستعمار الغربي، وكان تلبية لحاجات الأمّة العربية في تلك المرحلة التاريخية في تكوين حركة سياسية شعبية منظّمة تناضل في سبيل تحقيق أهدافها. ففي تلك المرحلة وبالتحديد في العشرينات من القرن المنصرم خضع القطر العربي السوري للحكم الفرنسي المباشر، بعد أن احتلّت الجيوش الفرنسية دمشق إثر معركة ميسلون في تموز 1920م، وعلى هذا الأساس بدأت مرحلة الكفاح الذي قادته قوى الاستقلال الوطني التي كانت تتمثّل بصورة رئيسة في جماهير الفلاحين في الريف وجماهير أبناء المدن من عمّال وحرفيين وكسبة وتجّار وطلاّب ومتعلّمين ومثقفين، كما برزت بعض الزعامات الإقطاعية والعشائرية والطائفية في قيادة بعض أجنحة الكفاح الوطني أيضاً. في حين وقف بعض الوصوليين من السياسيين المحليّين إلى جانب سلطة الاستعمار المتمثّلة في جيوش الاحتلال وسلطة الانتداب طمعاً في بعض المكاسب والمغانم.
ونتيجة للكفاح المسلّح الذي كان السمة الأساسية للنضال الوطني في سورية في المرحلة ما بين عامي ( 1920 ـ 1928م )، عندما تجلّى ذلك بصورة ثورات شعبية مسلّحة كان أبرزها ثورة عام 1925م، أُجبرت سلطات الاحتلال على إقامة نظام سياسي ذي شكل دستوري منذ عام 1928م، وقد أدّى وجود دستور ورئيس للجمهورية ونظام برلماني إلى انتقال هذا الكفاح من صيغته ككفاح شعبي، بصورة انتفاضات مسلّحة مركزها الأرياف وقوامها جماهير الفلاحين إلى صيغته ككفاح سياسي مركزه المدن وقوامه جماهير أبنائها، وكان ذلك بداية الانتقال من مرحلة الثورات العفوية غير المنظّمة إلى العمل السياسي العقائدي المنظّم.
وقد تولّت قيادة هذا الكفاح السياسي في ذلك الوقت الأحزاب السياسية الأساسية التي تأسّست في سورية في مرحلة ما بين الحربين وهي أحزاب الكتلة الوطنية، وعصبة العمل القومي، والحزب الشيوعي السوري ـ اللبناني، والحزب القومي السوري الاجتماعي، وباستثناء عصبة العمل القومي التي تبنّت شعارات الثورة العربية الكبرى عام 1916م، في الاستقلال العربي والوحدة العربية، فقد كانت الأحزاب الأخرى كلّها أحزاباً إقليمية. فقد رفض كل من الحزب الشيوعي السوري ـ اللبناني، والحزب القومي السوري الاجتماعي فكرة القومية العربية، واكتفت الكتلة الوطنية بطرح شعار الوحدة العربية في مبادئها دون إدخاله في برنامجها السياسي الذي اقتصر على المطالبة باستقلال سورية السياسي في إطار معاهدة 1936م، المبرمة مع سلطة الاحتلال الفرنسي.
ولقد أخفقت هذه الأحزاب السياسية في القيام بدور فعّال في النضال الوطني ضدّ المستعمرين، بسبب خلافاتها وتناحرها على السلطة، وبعد أن أثبتت عجزها عن الوقوف في وجه سلطات الاحتلال وتساهلها في المطالب الوطنية التي ضحّت بها على مذبح مصالحها الأنانية، وكان الأهم من ذلك كلّه رفضها فكرة القومية العربية وإحلالها تناقضات وهميّة وأيديولوجيات دخيلة بديلاً من التناقض الرئيس بين الاحتلال وبين مطلب الاستقلال الوطني الملحّ الذي كانت تنادي به القوى الوطنية. وكان للجماهير العربية دور بالغ الأثر في رفض هذه الأحزاب السياسية ورفض أيديولوجياتها، ما أفقدها عاملاً مهمّاً وحيوياً في استمرارها ونتيجة لهذا الفراغ في قيادة النضال الوطني تطلعت الجماهير الواعية إلى تنظيم جديد يلبّي آمالها ويحقق طموحاتها في التحرير والاستقلال ويقودها في عملية البناء والتطوير، وقد بدأت طلائعه تلوح في الأفق بالفعل.
في ظلّ هذه الظروف التاريخية المحلية والعربية والدولية، والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الصعبة ظهر حزب ( البعث العربي ) باسم: حركة الإحياء العربي، ليختار بعد مدّة قصيرة اسم: حركة ( البعث العربي )، ورفع شعاره الأساسي ( أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة ). وطرح الخطوط العامة لفكره السياسي، وشرع في النضال السياسي.
وفي الواقع ترجع البدايات الأولى لظهور حزب البعث إلى عام 1940م، ولكنّه لم يبرز على الساحة السياسية في سورية إلا بدءاً من عام 1943م، ذلك العام الذي يعدّ نقطة تحوّل لا في التاريخ السياسي للقطر العربي السوري وحسب، وإنما في حياة حزب البعث العربي الاشتراكي أيضاً، لأن فيه ظهرت ” حركة البعث العربي” أوّل مرّة لا كحزب سياسي فقط، وإنما كممثلة لأيديولوجية شعاراتها الأساسية هي: الوحدة والحرية والاشتراكية، هذه الشعارات التي ما تزال تحتلّ حتّى اليوم أهداف كفاح جماهير شعبنا العربي كلّه. وفي العام نفسه أعادت سلطات الاحتلال الفرنسي العمل بالدستور السوري الذي وضعته جمعية تأسيسية عام 1928م، وتمّ إجراء انتخابات نيابية لإقامة برلمان جديد، وتمّ كذلك انتخاب رئيس للجمهورية.
استطاع حزب البعث الذي التفّت حوله فئات واعية للمسألة الوطنية والقومية، وشملت المعلمين والطلاب والمحامين والأطباء والموظفين من ذوي الأحوال الفقيرة، استطاع في مرحلة التأسيس أن يشغل دوراً حاسماً ومهماً في تعبئة الجماهير في سورية لتحقيق الاستقلال ومواجهة الاحتلال الفرنسي، لاسيما فيما بين عامي 1943 – 1945م، التي انتهت بإخفاق العدوان الفرنسي في 29 أيار 1945م، وبتحقيق الجلاء العسكري عن سورية في 17 نيسان 1946م، هذا الجلاء والتحرير هما اللذان أتاح لحزب البعث أن يتأسس في نيسان عام 1947م، فكان المؤتمر التأسيسي لحزب البعث العربي انطلاقاً للحزب الذي أسهم بشكل فعّال في قيادة نضال الشعب العربي، وأقر مفاهيم سياسية واقتصادية واجتماعية، ووضع إستراتيجية جديدة تصون الأمة العربية وتحمي أبناءها، ما أثارت قلق الاستعمار وأتباعه، فشرعوا في عرقلة مسيرته النضالية ومقاومة أهدافه بشتى الطرق والوسائل، ولكنهم أخفقوا أمام صمود مناضلي الحزب الذين غيّروا الصورة في المنطقة العربية وأضفوا عليها الطابع العربي الشعبي.
ففي مقهى الرشيد الصيفي الذي يقع في شارع 29 أيار حالياً في مدينة دمشق قلب العروبة النابض، انعقد المؤتمر التأسيسي الأول لحزب البعث العربي ما بين 4 – 6 نيسان عام 1947م، وأنهى أعماله مع بداية اليوم السابع من نيسان، معلناً عن مقرراته التي صاغت أهداف الحزب الأساسية في الوحدة والحرية والاشتراكية، وحدّدت الدستور والأسس التنظيمية والنظام الداخلي.
لقد وضع البعث، وبعد تشخيص دقيق للواقع العربي، حلولاً مبتكرة لمشاكل الأمة العربية باتجاه الارتقاء بالمجتمع العربي إلى حيث يجب أن يكون، بالاستناد إلى ما يمتلكه من تاريخ عريق وحضارة راقية ومزدهرة، شملت أصقاع شاسعة من العالم، ووضع المبادئ التي حددت موقف الحزب من مسألة الحرية، وأقر المؤتمر حرية الفرد كشرط أساس لحرية الأمة العربية بأكملها، مراعياً الانسجام والتوفيق بين حرية الفرد الخاصة وبين المصلحة القومية العليا.
وانطلق المؤتمر من مبدأ أنه لا يمكن بناء أيّة حرية نضالية في وطننا العربي، وبناء مجتمع عربي سليم إلا إذا اقترن هذا النظام بالتفكير الاشتراكي، أي يجب أن يقترن بنظام اقتصادي يسمح للحرية أن تكون حقيقية، والاشتراكية هي الأرض الصلبة والثابتة التي يمكن أن تُبنى عليها حرية الإنسان، وبدون ذلك لا يمكن أن تتحقق الحرية، ولهذا أقرّ المؤتمر مبدأ الاشتراكية التي تعترف من جهة بحق الفرد في التملّك، وتحدّ من جهة أخرى من تضخّم حجم الملكية.
وبهذه المعادلة يبقى هناك للفرد حافز للإنتاج والإبداع، وبالوقت نفسه تبقى الدولة حارساً أميناً لحرية الفرد وللمصلحة القومية على السواء، فلا تسمح بانقسام المجتمع العربي إلى طبقتين، طبقة الرأسماليين المستغلّين، وطبقة الكادحين المحتاجين، ما يؤدي إلى فقدان الأمة تماسكها وانسجامها، وانتفاء وحدتها وعناصر قوتها، وهنا يبرز دور الحزب كموجه وقائد لمسيرة الجماهير العربية في تحقيق أهدافها نحو الوحدة والتحرر والتقدم.
جاء تأسيس البعث ثمرة نضال جماعي شاق، خاضه مناضلو الحزب في ظل ظروف صعبة وقاسية للغاية سادت أرجاء الوطن العربي، وأثقلت كاهل الأمة لسنوات طويلة، حيث التقت جهود هؤلاء المناضلين حول مبادئ الحزب الكبرى وأهدافه الرئيسة، مقتنعين بأن العمل السياسي المسؤول هو الأجدى والأكثر فعالية تحت مظلة تنظيم واحد يؤمن أفراده بفكرة واحدة، ويجمعهم هدف واحد.
كان المؤتمر التأسيسي انطلاقة لحزب جديد شغل دوراً في صياغة الفكر القومي واستنهاض الشعور القومي والوطني في مواجهة القوى الاستعمارية، ولفت أنظار العرب إلى الأخطار المحدقة بأمتهم، فكانت ثورة آذار عام 1963م، بقيادته هي الحدث الأبرز الذي حققه في المراحل اللاحقة وتمكّن من تفجير ثورة آذار في سورية وتولى قيادة الدولة والمجتمع فحوّل بنجاح ملحوظ المبادئ والأهداف والشعارات التي كان يرفعها وينادي بها طويلاً إلى برامج وخطط عمل جسّدت تطلعات الجماهير العربية وطموحاتها، وسمحت للحزب أن يستجيب للتطورات المحلية والعربية والدولية التي أحاطت بنضاله مروراً بالحركة التصحيحية عام 1970م، التي قادها القائد الخالد حافظ الأسد ووصولاً إلى مسيرة التطوير والتحديث التي يقودها السيد الرئيس بشار الأسد الذي استطاع أن يحافظ على المكتسبات التي حققها الحزب عبر مسيرته النضالية الطويلة، ويطوّر من فكره وأساليب عمله.
لقد عاش أعضاء المؤتمر ساعات غنية، وأعطوا فيها عطاءً مثالياً، ووضعوا الأسس الصحيحة آنذاك لبعث الأمة العربية. ولو كانت السلطات تعرف ما كان يعتلج في نفوس هؤلاء الأعضاء من حماس، وما يزخر في صدروهم من تطلّع إلى المستقبل العربي، واستطاعت أن تتصوّر ما يمكن لهم أن يحقّقوه من انتصارات في مختلف الميادين، لبذلت المستحيل من أجل إخماد صوتهم منذ اللحظة الأولى، لكنّها تصوّرت أنّ هذا المؤتمر ككلّ المؤتمرات الحزبية لا يتعدّى صداه حدود قاعة جلساته.
وفعلاً اطمأنت السلطات الوطنية حيث وجدت المؤتمر يتكلّم بالوحدة والاشتراكية في ظروف ليس في الوطن العربي قطر واحد نال استقلاله حقاً، لاسيما أن الرجعية العربية هي الحاكمة فيه، وهي القوّة الضاربة في هذا الوطن الكبير. ولهذا لم تشعر السلطات بأهمّية هذا المؤتمر إلا حين خرج البعثيون بعد انتهائه بمظاهرة أطلقوا فيها شعاراتهم الجديدة، وحين ترجمت قرارات المؤتمر إلى مواقف نضالية على مستوى القطر العربي السوري كلّه، وقد أحبطت هذه المواقف الكثير من مؤامرات الحكم وممارساته وفضحت ارتباطاته، وسجّلت للشعب انتصاراته الجديدة.
هذا ونقتبس هنا افتتاحية صحيفة البعث في عددها / 152 / الصادر بتاريخ 15 نيسان 1947م، كونها تلخّص وقائع المؤتمر ونتائجه فقد جاء فيها الآتي:
” انتهى بالأمس مؤتمر حزب البعث العربي الأول وأذاع على الملأ مقرّراته فإذا بها تضع الفرد العربي وجهاً لوجه أمام مشاكل أمّته وعِلل مجتمعه وتكشف أمامه طريق الخلاص من هذا الواقع المتأخّر وتضع بين يديه أداة التغلب عليه .. ولكن أهمّ حادث في هذا المؤتمر كان في الواقع المؤتمر نفسه الذي لم يكن مجرّد اجتماع لإلقاء خطاب مبين وإثارة حماسة عارضة وسماع محاضرة ممتعة ثمّ ينتهي بانتشار المجتمعين كلّ إلى عمله الخاص وحياته العادية، بل كان في الحقيقة مسعى إنشائياً قام به أعضاء حزب قد تعارفوا منذ سنوات والتفّوا حول مبادئه الكبرى وخطوطه الرئيسة ووضعوا عقولهم ونفوسهم في خدمة هذه المبادئ لتحقيق مثلهم وأهدافهم .. ولقد كانت القناعة حاصلة منذ سنوات عند الذين أسّسوا هذا الحزب بأن العمل السياسي المسؤول، المستقرّ، المستمرّ، لن يكون أبداً إلا عمل حزب ينتظم الأفراد الذي يدينون بفكرة واحدة وتسودهم نظرة واحدة، فيصهر نفوسهم وأفكارهم ويؤلّف بينهم ويخلق منهم جسماً حيّاً سليماً منيعاً لا ينال منه فساد المجتمع الذي يعيش فيه، ولا يلين لضغط القوى الماكرة التي تطبق عليه. هذا الحزب الذي يبدأ نواة تلقى في أرض خصبة تحاط بالعناية الوقاية من أذى المؤذين وإفساد المفسدين هو الذي يصبح فيما بعد الشجرة الطيبة الزاهرة المثمرة، التي لا تمتدّ في أعماق الأرض إلا لترتفع أكثر فأكثر إلى عنان السماء. كذلك كان ” البعث العربي” .. ولم يكن في مؤتمر البعث العربي رجال طوال عراض ولا أسماء ضخمة، ولا أولو سمعة وصيت ملأوا الأرض ضجيجاً حتّى ضجّ منهم كلّ من عليها، ومع ذلك فقد كشف هذا المؤتمر لأعضاء الحزب ما عندهم من قابليات، وما في الحزب من إمكانيات وظهرت فيه بذور القيادة القومية المقبلة. ولن تمضي سنوات قليلة حتّى يذهب الزّبد، ويولّي الزيف، ويزاح عن العرب هذه القيادة الجاثمة فوق صدورهم المتحكمة بمصيرهم .. وبعد فقد كان المُؤتمر الأول للحزب ” البعث العربي” حادثاً تاريخياً في حياة أعضاء الحزب وستبرهن الأيام عمّا إذا كان كذلك في تاريخ السياسة العربية الحديثة. فلقد أقرّ في هذا المؤتمر دستور الحزب الذي سجّل وأجمل المبادئ التي تشبّعت بها نفوس ” البعثيين” والتي سيدعون بها العرب في أيّ قطر من أقطارهم إلى الانتظام في حزبهم ليحقّقوا به المجتمع العربي الذي صوّره هذا الدستور والذي يمثّل هذا الحزب بحقيقته وتكوينه صورة مصغّرة عنه .. فلقد حدّد المؤتمر موقف الحزب من مشكلة الحرية. فأقرّ حرية الفرد واعتبرها شرطاً أساسياً لحرية الأمة وسموّها ولازدهار الوطن ما دامت تؤمّن الانسجام بين تطور الفرد وبين المصلحة القومية. وبهذا يكون من أهمّ مبادئ الحزب شجب الديكتاتورية ومحاربتها دون هوادة .. ولكنّ الحزب الذي أقرّ حرية الفرد لم يتعام عن العامل الاقتصادي، ولم يتجاهل ما له من أثر وخطر على حرية الفرد نفسها فقرّر أن الحرية الاقتصادية قد تطوح بالفرد وتحول طموحه إلى طمع جهنمي فيستغل جهد الأفراد الأحرار ويجعل عملهم وسيلة لاستغلال رأسماله ويقسم بهذا الشكل الأمة طبقتين، طبقة الرأسماليين المستغلّين وطبقة الكادحين المعوزين، فتفقد الأمة تماسكها وانسجامها وتنتفي وحدتها وقوّتها. لهذا أقرّ المؤتمر مبدأ الاشتراكية التي تعترف من جهة بحق التملّك الفردي، وتحدّد من جهة أخرى من تضخّم الملكية .. وبهذا وضع دولة اليوم في موضعها الطبيعي فلا هي تسيطر على جميع المشاريع والمؤسسات فتقتل في الفرد روح التشبث وحافز الإنتاج والإبداع عنده، ولا هي تترك الاقتصاد حرّاً بحيث يورث تضخم رأس المال واستعباده للعمل، وبهذا تكون الدولة الحارس الأمين لحرية الفرد الحقيقية وللمصلحة القومية معاً .. وبهذا يشقّ حزب البعث العربي للعرب الطريق الوحيد لتحرّرهم وتوحّدهم وتقدّمهم”.
وهكذا كان المؤتمر التأسيسي لحزب البعث العربي خطوة ناجحة للجيل العربي الصاعد نحو أهدافه، كما كان الركيزة الأولى لأوّل حزب جماهيري عقائدي قلب وجه المنطقة ومفاهيمها وذلك بما كان بين صفوفه من أهل الفكر والعمال والفلاحين حيث امتدّ على طول الوطن العربي بشكل متواصل ما أثار هلع المستعمرين وأتباعهم فأخذوا يقاومون الحزب وأعضاءه بكلّ وسائلهم، ولكنّه صمد وبدّل الصورة في المنطقة العربية وألبسها الثوب العربي الشعبي.
د.معن منيف سليمان