جيش الفرار الإسرائيلي
يكفي المرء أن يشاهد “النزهة” الصحافية التي أجرتها مراسلة محطة RT في ثكنة أفيفيم العسكرية أمس، وببث مباشر، ليخرج بأحد أبلغ المفارقات – النتائج التي تمخضت عنها الجولة الباردة – الساخنة التي جرت بين المقاومة و(الكيان الإسرائيلي) خلال الأيام الأخيرة. في الحالة “التقليدية”، من المفترض أن ينبري أي جيش “طبيعي” إلى رفع مستوى جاهزيته في مواجهة تهديدٍ من النوع الذي أعلنته المقاومة في وجهه، حتى لا نبالغ في مستوى التوقع ونقول إن المنطق العسكري يفرض عليه السعي إلى العمل بشكل وقائي أو استباقي أو حتى استعراض ردعي للقوة. وتشمل هذه الجاهزية عادةً – بحسب المصطلحات العسكرية – تعزيز الموقف الدفاعي الذي يهدف إلى إحباط التهديد من خلال صدّه حالَ تحققه وتكثيف إجراءات الحماية والتأمين لأجل تحصين القوات من الاستهداف.
في الحالة الإسرائيلية – اللبنانية، الجيش الذي يفاخر عند كل صيحة ديك بأنه الأقوى في المنطقة، يبتدع نظرية جديدة في العلوم العسكرية تقوم على تصفير الأهداف أمام التهديد، لكن ليس من خلال الحماية والتأمين والمناورة في الحركة، بل من خلال إجراءٍ أساسي وحيد هو: الفرار.
وعبارة الفرار تنطبق هنا، لأن الجيش الإسرائيلي لم يهجر فقط مواقعه الأمامية ويتركها شاغرة من عناصر الحراسة والمراقبة، بل حوّل ثكناته وقواعده الواقعة ضمن حقول الرؤية والرماية التي تطل عليها الحدود اللبنانية إلى مبانٍ مقفرة تشبه تلك التي نشاهدها في الأفلام الأبوكلابسية. حظُّ ثكنة أفيفيم العاثر جعلها فريسة لكاميرات الإعلام والمقاومين، لكنّ العارفين يروون أن هذا كان حال مواقع “العبّاد” و«معيان باروخ” و”الراهب” و”رويسات العلم” و”زرعيت” وغيرها.
لكن الجيش الإسرائيلي لم يكتفِ بذلك فحسب، بل لجأ إلى تقديم أهداف وهمية للمقاومة علّها تفديه من نقمتها، وعندما لم ينفع ذلك ووقع المحظور، قدّم رواية “التمثيل” التي تناقلتها وسائل إعلامه، وفحواها أنه تظاهر بإخلاءٍ مروحي لإصاباتٍ من موقع العملية، لإيهام المقاومة بإنجازٍ مبدئي يمنحها التعويض المعنوي والردعي الذي تتوخاه من وراء العملية التي نفذتها.
والحقيقة أنه لا يمكن تخيّل شيء أكثر فضائحية للجيش الإسرائيلي من رواية التمثيل هذه. فهي إن لم تصح، تعني أن الجيش يكذب بشأن عدم وجود إصابات، وإنْ صحّت، فتعني أنه آثر التضحية بهيبته على مذبح تهيّبِه حزب الله في سياق السعي إلى إرضائه وإخماد غضبة الإقتصاص لديه.
وفي عالم التوازنات العسكرية، لا يوجد شيء أكثر محقاً لبأس الجيوش من سقوط هيبتها. عندما يسمح أي جيش لنفسه بأن يتجرد من هيبته، فإنه يجرد نفسه من ثقته بنفسه وثقة شعبه به؛ والطريق من هنا نحو الهزيمة في ساحة المواجهة تضحى أشبه بساعة رملية متناقصة.
وحتى تكتمل سريالية المشهد، لا بد من التوقف عند لجوء أفراد الجيش الإسرائيلي إلى ارتداء اللباس المدني (كما قالت مراسلة RT) للتحرك في مقابل الحدود مع لبنان، محتمين بذلك من استهداف المقاومة. المسألة هنا تتجاوز الجانب الشكلي وتضج بما يشبه الانقلاب المفاهيمي. الجيش الذي تقوم فلسفة وجوده على حماية المدنيين، يسعى إلى حماية نفسه بالتستر (وإن شكلاً) بهم.
احتفل (الكيان الإسرائيلي) أول من أمس بعدم وقوع إصابات (كما زعمت) وعدَّته الإنجاز الأهم في جولة الأيام السبعة الأخيرة التي خاضتها مع حزب الله. في سبيل “تحقيق” هذا الإنجاز ارتضت الدولة النووية الوحيدة في الشرق الأوسط أن يكون جيشها متوارياً، هارباً ولائذاً على حدودها الشمالية، وأن يستعين بقفشات هوليوودية لمنح عدوّها نصراً يسعى إليه افتداءً لجنودها من قصاصه. المفارقة الجوهرية الأبرز في ما حصل، هي أنه فيما كان الجيش الإسرائيلي يمثّل مشهد الخسارة لتحقيق الإنجاز، كانت المقاومة تُمَسرِح مشهد الإنجاز لتكريس انتصارها في وعي ذاتها وشعبها وأمتها، وقبل كل ذلك في وعي عدوّها المنهزم.
البعث ميديا || نقلا عن صحيفة الأخبار اللبنانية