البركان الهامد.. حقائق حول التجسس الإسرائيلي على أمريكا
خلال الأيام الماضية أثار تقرير نشرته صحيفة “بوليتيكو” الأميركية نقلاً عن 3 مسؤولين أمريكيين سابقين “بركانا هامداً” في ملف التجسس الإسرائيلي على الولايات المتحدة، لم تستطع كل محاولات الإدارات الأميركية السابقة والحالية من إبقائه بعيدا عن الإعلام.
التقرير الجديد تحدث عن “جهات إسرائيلية” تجسست خلال العامين الماضيين، على الرئيس دونالد ترامب وطاقمه الإداري، عبر أجهزة تنصّت استخباراتية وضعتها بجوار المؤسسات الحساسة في العاصمة واشنطن.
هول الفاجعة الذي أصاب ترامب جعله يخرج سريعاً لوسائل إعلامه لينفي الخبر جملة وتفصيلاً، مرفقاً تصريحه بجملة “لا أصدق”.. على الضفة الثانية من المشهد نرى رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو، الغارق في ملفات معركته الانتخابية المعقدة، أصر على ان هذا الإدعاء مُلفق بشكل كامل واصفاً إياه “بالكذب الصارخ” وسارع إلى تحميل مسؤولية نشر الخبر وهو قيادة تحالف “أزرق- أبيض” المعارض له.
الكشف الجديد يشجع على التفكير بمدى مصلحة استخبارات الكيان في التجسس على حليفها الاول والأكبر الولايات المتحدة, ولكن وراء هذا النفي القاطع وعدم تصديق طعنة الحليف “تاريخ” لا يستطيع أحدٌ من الطرفين تكذيبه.
التجسس قبل إعلان تأسيس الكيان الصهيوني
يقول مؤرخون إن الكيان الإسرائيلي يحاول سرقة الأسرار من الولايات المتحدة، الحامية الرئيسية، منذ إعلان الكيان المزعوم في العام 1948، وحتى قبل ذلك، ولا تطال عمليات التجسس الإسرائيلية على الولايات المتحدة، بحسب الوثائق، الجوانب الدبلوماسية والسياسية فحسب، بل تمتد إلى التكنولوجيا الصناعية والعسكرية.
فقد أعلن (جون ديفيت)، رئيس الأمن الداخلي في وزارة العدل الأميركية بين عامي 1950 و1980، أن جهاز المخابرات الإسرائيلي طوال فترة ولايته كان ثاني أكثر نشاط في الولايات المتحدة، بعد الاتحاد السوفيتي.
وفي ستينيات القرن الماضي، برزت سرقة الكيان للأسرار النووية الأميركية، وأعقبتها بسرقة اليورانيوم الأميركي المخصب عبر شركة “تعاقد” يسيطر عليها كيان الاحتلال في أبولو بولاية بنسلفانيا.
وتوسع مكتب التحقيقات الفيدرالي في التحقيق الذي كان يقوم به آنذاك مع لجنة الطاقة الذرية حول احتمال قيام مؤسسة المواد والطاقة الذرية في بلدة أبولو بولاية بنسلفانيا بنقل اليورانيوم إلى الكيان, وكان مكتب التحقيقات حريصا، بالدرجة الأولى، على حماية الوثائق السرية المتعلقة بتقنية الأسلحة المخزنة في أبولو، غير أن بعض الزوار الإسرائيليين، ومن بينهم (رافائيل إيتان) المعروف بعلاقاته مع المخابرات الإسرائيلية، تمكنوا من الوصول إلى تلك الوثائق.
ووفقا لتقرير صادر عن وكالة الاستخبارات الأميركية عام 1979، فإن الصهاينة، وبينما يستهدفون الأسرار السياسية، يكرسون “جزءا كبيرا من عملياتهم السرية للحصول على معلومات استخبارية علمية وتقنية”, وشملت هذه العمليات “محاولات لاختراق بعض مشروعات الدفاع السرية باستخدام “مؤسسات ذات غطاء عميق”، قال التقرير بأن بعض هذه الشركات تم إنشاؤه خصيصا لهدف محدد أو قابل للتكيف معه.
التجسس بشكل رسمي تحت الغطاء السياسي
في أربعينات القرن الماضي وصل أول ملحق عسكري إلى واشنطن في حزيران 1948 هو (إفرايم بن أرتزي), الذي قام بتشكيل مجلس للتجسس على الولايات المتحدة.
وتألف المجلس من أربعة هم: (ابن أرتزي) نفسه، وعضو في الوفد الإسرائيلي إلى هيئة الأمم بنيويورك، وعميل مخابرات محترف كان يتنقّل بين الكيان والولايات المتحدة ومحام أميركي بنيويورك.
مهمة المجلس
كان بين المشاريع الأولى التي قام بها المجلس إنشاء مركز في نيويورك لتدريب العملاء المجنّدين على أساليب التجسس، كالمراقبة الالكترونية في الشوارع، استخدام الحبر السري، واستخدام الشيفرة في المراسلات، ووضع آلات التنصت في الفنادق التي تنزل فيها الوفود العربية إلى هيئة الأمم والسيارات التي يتنقّلون فيها.
حالة (بن أرتزي) لم تعلم واشنطن من خطأها السابق, حيث قام مسؤول صهيوني كبير اسمه (أيزنشتاد) عام 1956 بالتواصل مع مسؤول في السفارة الأميركية اسمه (ايرل آي جنسن) وعرض عليه مبلغاً من المال مقابل الحصول له على معلومات سرية ووثائق. فتظاهر جنسن بالقبول وقام بإشراف مكتب التحقيقات الفدرالي بتسليم مواد مختارة لعميلين صهيونيين وهما (أبرامسكي ونيفوث).
عام (لانجوتسكي)
يعتبر الكولونيل (يوسف لانجوتسكي) أشد الجواسيس الذين أرسلهم الكيان إلى الولايات المتحدة إزعاجاً ومثابرة, وقد تنبّه له مكتب التحقيقات الفدرالي بعد وقت قصير من تعيينه في أواسط سنة 1976 مساعداً للملحق العسكري في السفارة الإسرائيلية بواشنطن.
عملياته
تمكّن من اختراق المناطق الحساسة المغلقة بوزارة الدفاع الأميركية مرات عديدة.
وحاول بطرق ملتوية تجنيد موظفين بوزارة الدفاع للتجسس.
وبعد أن أنذرت الوزارة السفارة الإسرائيلية عدة مرات، رفضت أن تتعاون معه بأي وجه ومنعته من الاتصال بها, وفي أوائل عام 1979 استدعته الحكومة الإسرائيلية وأعادته من أميركا.
الضربة القاضية
في ثمانينيات القرن الماضي، تم الحكم على (جوناثان بولارد) المحلل الأمريكي بوكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه) بالسجن مدى الحياة بعد أن اعترف بالتجسس لصالح الموساد الصهيوني وتسريب آلاف الوثائق السرية بتجنيد من ضابط (الموساد) رافي إيتان.
فالضرر الذي ألحقه (بولارد) بمصالح الأمن الأميركي قد يكون من المستحيل الإحاطة بأبعاده.
فما قدّمه للإسرائيليين يشتمل على أكثر من ألف وثيقة سرية بينها وثائق تقع الواحدة منها في مئات الصفحات. ومنها ما كان مصنّفاً بين الوثائق السرية جداً أو ما يُعرف “بالوثائق المصنفة الحساسة” التي تشتمل على “معلومات عن الأنظمة التكنولوجية المتقدّمة لجمع المعلومات وما جُمع بواسطتها”.
وتشتمل هذه الوثائق على معلومات مفصّلة عن حكومات الشرق الأوسط وجيوشها، وعن مواضع السفن وأساليب الحرب وأنظمة الأسلحة الأميركية، وعن تحليل الأميركيين لأنظمة الصواريخ السوفييتية. كما تشتمل على معلومات وافرة عن أساليب المخابرات الأميركية البشرية والإلكترونية في جمع الأخبار.
وحذّرت وزارة العدل بصورة خاصة من أن الحصول على تلك المعلومات يكشف هوية المخبرين الذين تستخدمهم المخابرات الأميركية في الشرق الأوسط وربّما في أماكن أخرى.
لمن سلّم بولارد هذه الوثائق؟
في البداية على الأقل وصلت غالبية هذه الوثائق المسروقة إلى الحكومة الإسرائيلية, كما أن (بولارد) وزوجته أطلعا بعض أصدقائهما عليها.
ومما يلفت النظر أن المعلومات التي سرقها (بولارد) باستخدام جهاز الكمبيوتر المشترك بين مختلف الوكالات تكاد كلها أن تقع خارج اختصاصه (وهو الإرهاب) وخارج منطقة تجسسه (وهي أميركا اللاتينية), وبعبارة أخرى فإن تلك المعلومات من النوع الذي لا حاجة به لمعرفته. وعلى أي حال فإن نظام حماية المعلومات السرية جداً قد انهار تماماً. وعندما أقام (بولارد) أول اتصال له بالصهاينة أبلغهم أنه يريد أن يستغل بعض الجواسيس العاملين في جهاز المخابرات الأميركية لصالح الكيان، وقد قام بذلك فعلا.
ثمن العملية
تسلّم (بولارد) مبلغ 50.000 دولار خلال ثمانية عشر شهراً ووُعد بأن يقبض 450.000 دولار أخرى خلال السنوات العشر التي كان ينتظر أن تستمر فيها عملية التجسس. كذلك جرى إيداع 30.000 دولار باسمه في أحد بنوك سويسرا, فضلاً عن الجواهر وغيرها من الهدايا التي قُدمت له ولزوجته.
وكان هذا كلّه لتشجيع (بولارد) على المضي قدماً بالعملية, واشتملت النفقات الأخرى على مرتبات المشاركين الآخرين وعلى تكاليف أجهزة النسخ والاجتماعات في أوروبا وداخل الكيان الإسرائيلي, وعليه فإنها كانت عملية باهظة التكاليف.
وباختصار فإن قضية (بولارد) كان ولا يزال لها تأثير سلبي قوي على العلاقات العملية بين هذين البلدين اللذين عقدا تحالفاً أمنياً وثيقاً.
واشنطن “لا تقرأ”
هناك مثل أمريكي مشهور “إن خدعتني مرة فعار عليك, وإن خدعتني مرتين فعار عليًّ”، لكنه لم يكن حاضرا في الذهن السياسي الأميركي دوماً، ويتجلى ذلك في ما حدث عام 1983 عند ما قام مكتب الأمن التابع لوكالة المخابرات بوزارة الدفاع الأميركية بتفتيش مكان عمل وبيت أستاذ كبير (تم التعتيم على اسمه في كافة التقارير) في كلية وزارة الدفاع للتجسس.
وكان عدد من زملائه قد رفعوا تقارير حول علاقاته المشبوهة بمسؤولين صهاينة يعملون بالمخابرات, ولم يعثر مكتب الأمن على أية وثائق سرية مسروقة خلال التفتيش, لكنه عثر على مئات الكتب الممزقة التي كانت قد سُحبت بالاحتيال والتزوير من مكتبة الكلية وشُوّهت, وعلى أثر ذلك قامت وزارة الدفاع بإحالة القضية على النيابة العامة.
وأخيراً جرت تسوية مع الأستاذ، فاعترف في تشرين الثاني عام 1983 بأنه مذنب بالاعتداء على ممتلكات الدولة، بالرغم من أن بعض المسؤولين صرّح بأن التحقيق كشف عن اختفاء بعض المواد السرية من مكتبة الكلية.
وأصدرت المحكمة حكماً بإدانته وحكمت عليه بدفع غرامة, ولكن بدلاً من سجنه حكمت عليه بالقيام بأعمال لخدمة المجتمع خلال مدة معيّنة, وشملت التسوية وجوب استقالته فوراً من منصبه كموظف مدني في وكالة المخابرات التابعة لوزارة الدفاع والتي تدير الكلية.
العملية الأحدث
شهد عام 2006، الحكم على (لورانس فرانكلين) الموظف السابق في وزارة الدفاع الأمريكية بالسجن لمدة 13 عاماً بتهمة التجسس لصالح الكيان الإسرائيلي، وتمريره وثائق سرية حول السياسة الأمريكية تجاه إيران إلى الكيان، وتم تخفيف الحكم عليه في وقت لاحق إلى الإقامة الجبرية لمدة عشرة أشهر.
هذه العمليات التي وثقت على مستوى تاريخ الكيان الإجرامي الذي يغدر بالحليف قبل العدو خدمة لمصالحه, فتجسس الكيان على الولايات المتحدة الأمريكية حقيقة ثابتة لا يمكن أن تحجب تحت غطاء علاقة “المنفعة المتبادلة” بين الرجلين، فترامب قدم لهذا الكيان ما لم يقدمه أي رئيس أمريكي آخر ونتنياهو يعبر عن ذلك صراحة ويستخدمه كورقة انتخابية.
خلاصة القول أن جميع العمليات التجسسية والاستخباراتية التي قام بها كيان الاحتلال ضد الولايات المتحدة حليفه وداعمه الأكبر تمت التغطية عليها من قبل الحكومات الأميركية ذاتها، ولم يعلم المواطن الأميركي بمعظمها، إذ أن المصالح المالية التي غالباً ما تقرر من يرأس أمريكا، هي ذاتها المصالح التي تدفع الرئيس الأميركي، أيا كان، للتغطية على التجسس الإسرائيلي على بلاده.
البعث ميديا || بحث وإعداد: مجد عمران