واقع سياحة طرطوس.. جردة 2019
مسافة قصيرة كانت تفصلنا عن الشاطئ البحري في محافظة طرطوس قبل أن يستوقفنا شاب عشريني ويسأل بنبرة التائه عن الطريق المؤدي إلى البحر، لم يكن السؤال المفاجئ مُزاحا، ولم يكن الشاب كذلك غريبا عن المحافظة، فهو ابن إحدى القرى الجبلية البعيدة نسبيا عن البحر، لكن ظروفه وصعوبة المواصلات بالنسبة إليه لم تسمح بالتعرف إلى المياه الزرقاء مسبقا، والمؤكد أن سؤالا كهذا يترك لنا مؤشرا حزينا مع انتهاء الموسم السياحي عن واقع سياحة خجول ساهمت في ترسيخه ظروف الحرب، والواقع الاقتصادي السيء، وظروف التنقل الصعبة حتى ضمن المحافظة الواحدة، وكذلك غياب الكثير من الخدمات المطلوبة لتمكين السياحة الشعبية، بالرغم من كل ما قيل عن خطوات وإجراءات اتخذت مع بداية الموسم السياحي.
درس سباحة
رغم ذلك تبدو السياحة الشعبية متنفسا للكثيرين، بأشكال وطرق مختلفة، ساعات الفجر الأولى توقيت مناسب تماما لدرس سباحة صباحي يمكن أن تمضي إليه برفقة بعض الأصدقاء أو الأقارب ممتلئا بهمة عالية ونشاط شديد، فتعبر من شوارع مدينة طرطوس الهادئة، وزواريبها الضيقة إلى “كورنيشها” البحري، هناك ستشهد حركة خجولة لبعض الأشخاص الذين تستهويهم رياضة الركض أو الجري برفقة صدى الأمواج، ومنظر البحر الجميل في تلك الساعة.
تكمل المسير لتدخل عمق المكسر البحري، وعلى بعض الصخور المتراصة تودع ما لا تحتاجه من ملابسك، ثم تمضي عبر شاطئ رملي بسيط شكلته حركة الأمواج المتعاقبة لسنوات منذ انتهى العمل بالكورنيش.. أخيرا تسلم نفسك برضا إلى مياه البحر الهادئة، فتحتضنك أمواج لطيفة، باردة قليلا، تزيل عنك كل تعب وهم، وتخفف من عبئ الرطوبة العالية والحرارة الشديدة التي يعرفها جيدا سكان المدنية في مثل هذا التوقيت من العام، حيث أصبحت السباحة عند معظمهم طقسا لابد منه، ونشاطٌ شعبي درج في ذلك الموقع للكثير من سكان عروس الساحل السوري.
طقس اجتماعي
وبخلاف منظر الكورنيش الذي يشهد حركة خفيفة، فالصورة في المياه مختلفة تماما وأعداد السكان الهاربين من موجات الحر والرطوبة كثر، يبدو المشهد للمراقب أشبه بطقس اجتماعي يجمع فئات مختلفة من سكان المدينة صباحا، فتشاهد المدرس، والطبيب، والمهندس، وبعض الطلاب الجامعيين، وفئة لا بأس بها من المتقاعدين وسواهم من فئات المجتمع الأخرى، الملفت أن معظم من كان هناك يحفظون وجوه بعضهم البعض، ويتبادلون تحية الصباح، وطقوس البريستيج الاجتماعي (صباح الخير يا أستاذ .. أهلا بالمعلم)، الجميع يستمتعون بالرياضة التي اعتادوا عليها يوميا، قبل أن يمضوا إلى أعمالهم حين ينقضي وقت السباحة الجميل. يوضح المهندس عبد السلام أحد الأصدقاء الذين كنا برفقتهم: طرطوس مدينة صغيرة ومعظم منازلها قريبة نسبيا من البحر لذا يمكن لأعداد كثيرة من السكان أن يمارسوا هذا النشاط، والرياضة الصباحية المجانية التي تتطلب فقط مقدارا عاليا من الهمة وإرادة للاستيقاظ المبكر، يؤكد عبد السلام أنه اعتاد السباحة بشكل شبه يومي ابتداء من شهر أذار وحتى أوقات متأخرة من شهر تشرين الأول.
تبدأ الشمس بالارتفاع تدريجيا، تغادر المياه وأنت في شوق إليها، ربع ساعة إضافية مطلوبة لتجفف نفسك في الهواء الطلق بعد أن تغسل رأسك فقط بمياه حلوة ونظيفة، تشير الساعة إلى السابعة والنصف إلا خمس دقائق، موعد المغادرة إلى نقطة الانطلاق في أحد البيوت الشعبية لطرطوس التي تختفي خلف الواجهة البحرية، هناك يمكن أن تحظى بدوش سريع قبل أن تستكمل الروتين اليومي، وتنطلق إلى عملك كما يفعل من اعتاد هذا النشاط من سكان مدينة طرطوس.
غير مخصص للسباحة
الملفت أن فئة كبيرة من سكان المدينة باتوا لا يعبئون باللافتات المنتشرة على طول الكورنيش، والتي تشير إلى أن المكان غير مخصص للسباحة، ومعظم من سألناهم من الأصدقاء والسكان يبررون أن ارتياد البحر بهذه الطريقة الحل الوحيد بالنسبة إليهم لارتفاع أجور الشاليهات وابتعاد الشاطئ المفتوح الذي خصصته المحافظة هذا العام عن المدينة، وبالنسبة إليهم فمنازلهم قريبة من البحر، وإتقان السباحة من الأمور البديهية التي ينبغي عدم سؤالهم عنها، مع التذكير أن الكورنيش تتواجد به بعض النقاط الطبية للمسعفين والمنقذين للتدخل في الحالات الضرورية، لكن التوضيحات الأخرى والأسباب الإضافية التي قدمت إلينا بشأن هذه التحذيرات أن منطقة الكورنيش والمكسر البحري منطقة خطرة تحتوي على صخور وهي أيضا مصب صرف صحي، وترتفع فيها نسبة المياه الملوثة والآسنة، لذلك ينبغي بشكل قاطع تجنب السباحة هناك، لكن تبرير هذه الإشكالية حاضر أيضا بالنسبة للسكان فهم يعرفون أقل الأماكن تلوثا والتي يمكنك السباحة فيها دون إي مخاطر أو إشكاليات كما يقولون، حيث يوضح البعض أن البحر صباحا يكون في حالة تجدد وتنظيف ، ولعل التفسير الأكثر منطقية الذي لمسناه لتحوّل هذه المنطقة من الكورنيش إلى منطقة سباحة شعبية هو قربها من المدينة إضافة إلى الحالة المادية المتردية لمعظم السكان، وعدم تحملهم أعباء الحصول على سيارات أجرة لمناطق الشاليهات القريبة التي ترتفع أجورها أيضا بشكل جنوني هذا العام.
شواطئ مفتوحة
وبالعودة لمديرية السياحة بين يزن الشيخ مدير السياحة في المحافظة نشاط المديرية خلال الموسم السياحي ورد على معظم التساؤلات المتعلقة بحالة النشاط السياحي خلال هذا العام حيث تحدث عن شاطئ الكرنك السياحي الذي تم افتتاحه هذا العام من قبل مجلس مدينة طرطوس مع بداية الموسم، كما هو مخطط زمنيا له مع العلم أنه تمت إضافة عدة فعاليات إليه مثل مطعم شاطئي، وملاعب كرة قدم عدد 3، إضافة إلى افتتاح موقعين للسياحة الشعبية الشاطئية في منطقة شاطئ الأحلام بجانب البلو باي.
وفيما يخص عمل مديرية السياحة بطرطوس لصيف هذا العام أوضح الشيخ أن موضوع الرقابة السياحية الدائمة والمستمرة على المنشآت السياحية أتي بالدرجة الأولى للتأكد من الواقع الخدمي السياحي فيها، وجودة الخدمات السياحية المقدمة والالتزام بآلية تقاضي الأسعار المعتمدة من وزارة السياحة سواء في المطاعم أو الفنادق، وبين عددا من الأنشطة التي تم تنفيذ بعضها والتحضير لبعضها الآخر هذا العام مثل إقامة مهرجان التراث السوري في شهر نيسان بالتعاون مع اتحاد الحرفيين في مدينة طرطوس القديمة، والمشاركة مع محافظة طرطوس إقامة مهرجان المغتربين في صافيتا المزمع عقده في 22- 23 – 24 أيلول القادم. كما تم التنسيق مع مجلس مدينة الدريكيش، ومجلس مدينة القدموس لإقامة فعاليات سياحية في كلا المنطقتين في هذا الموسم.
مشاريع جديدة
وفيما يخص أهم المشروعات المتوقع دخولها حيز الاستثمار السياحي هذا العام بين مدير السياحة دخول جزء من مشروع شاهين السياحي قيد الاستثمار الجزئي التجريبي مع العلم أن المشروع من سوية أربعة نجوم، ويضم قسمين استثماري وتنظيمي وهو عبارة عن قرية سياحية متكاملة الخدمات السياحية والتجارية والخدمية والترفيهية على شاطئ البحر مباشرة جنوب طرطوس في منطقة الهيشة، وأكد الشيخ أن المشروعات السياحية التي يتم العمل فيها هذا العام تتجاوز قيمتها مليارات الليرات السورية، وحول الحجوزات الفندقية هذا الموسم بين الشيخ أنها جيدة وتتجاوز الـ 60 % في غالبية المنشآت السياحية خلال أيام الأسبوع في حين تصل لـ 90 % والـ 100 % في أوقات المناسبات والأعياد والعطل الرسمية.
وختم الشيخ بالحديث بتوضيح ما يخص المشاريع السياحية المتعثرة هذا العام العائدة للقطاع السياحي فقد تم إعداد ملاحق العقود الخاصة بها وتتم دراستها مع المستثمرين وهي في مرحلة التوقيع حيث تم حل أغلب المشاكل التي تتعلق بها.
سياحة ولكن
على كورنيش طرطوس مجددا، وقبيل الغروب بلحظات يبدو المشهد أكثر حركة وحياة. نتأمل طائرات الورق التي تحلق في الهواء عاليا على امتداد الشاطئ والتي باتت مشهدا مألوفا لسكان المدينة السياحية الصغيرة، وكذلك حال عربات الذرة و”البوشار” وبعض الأكشاك والبسطات المتنقلة، أما منظر الكراسي والطاولات المصطفة في كل مكان أمام الواجهة البحرية مع الشماسي، فيبدو مثاليا جدا لحركة سياحية واعدة في عروس الساحل السوري، لكن ورغم هذه التفاصيل المشجعة، والمنظر الجميل، يبدو للمراقب أن الطاولات وكراسيها في حالة عدم إشغال بنسبة كبيرة وما أن حل الموسم الدراسي حتى اختفى جميع المصطافين بالرغم من الجو الحار المناسب للسياحة، حتى المطاعم والاستراحات الموجودة هناك لم تحظى بحسب المشاهدة بنسبة إشغال، ما يثير أسئلة كثيرة عن الأسباب، خاصة عندما نرى أعدادا جيدة من السكان والمصطافين افترشوا الصخور أو شغلوا الكراسي المجانية القليلة والمحطمة بمعظمها، إضافة لمشهد الأوساخ الذي أصبح ملازما لهذه المدينة بخلاف ما يتمنى أي ساكن وزائر، لعل في جعبة الحرب الطويلة وسنواتها العجاف جزءا وافيا من الإجابات بعد أن جلعت معظم الناس في أحوال معيشية متردية، إذ يقول بعض من قابلناهم على الكورنيش: من غير المعقول أن ندفع مبلغا لا يقل عن 1500 ليرة فقط لاستئجار طاولة دون أي طلبات، لماذا لا تقوم المحافظة بالتدخل عبر تخصيص المزيد من المقاعد للعموم، وصيانة التالف منها، أو الضغط على أصحاب هذه الطاولات لتقديمها للمصطافين بأسعار رمزية مقبولة، في المقابل لماذا تكون أسعار المطاعم خيالية، ويصبح ارتيادها حلما عند الكثيرين!؟.
البعث ميديا || محمد محمود