سورية

6 تشرين.. الحاضر الغائب درامياً

على الرغم من مضي أكثر من ستة وأربعين عاماً على حرب تشرين التي غيّرت الكثير من موازين القوى الإقليمية والدولية في الحقل السياسي والعسكري، وأعادت للإنسان العربي روح الأمل ورمّمت الانكسارات التي خلفتها نكسة حزيران 1967، إلا أن هذا الحدث المفصلي في تاريخ سورية المعاصر، والذي كان من الضروري تمثّل دروسه وتقديمه عبر الآداب والفنون وتظهيره اجتماعياً وفكرياً بما يليق به، يبدو أنه ظلّ الحاضر الغائب طوال العقود الماضية عن هذه الفنون والآداب.

ونزعمُ هنا أن مثل هذه المسؤولية الوطنية تستلزمُ أن نتكاتف جميعاً، أفراداً ومؤسسات عامة وخاصة، لتخليد البطولات العظيمة التي أبداها جنود الجيش العربي السوري، وقصص التضحية وحكايات الإقدام والشجاعة وهم يواجهون العدو دفاعاً عن قدسية أرضنا وسيادة وطننا، ويسطّرون عبر قوافل الشهداء والجرحى ملاحم صمود ستبقى في ذاكرة الأجيال، وذلك بتبني مشروع وطني يساهم الجميع فيه، وليس بأسهل من لقاء بعض من شارك في حرب تشرين من القوات والمسلحة والأهالي الذين عاشوا هذه الحرب والبناء عليها، وخاصة في مضمار الدراما التلفزيونية التي تعدّ الأقرب إلى الجمهور.

إن هذا الحدث الخالد في وجدان السوريين جميعاً والذي توّج برفع القائد الخالد حافظ الأسد العلم السوري فوق سماء القنيطرة معلناً تحريرها في حزيران 1974، يحمّلنا مسؤولية الحفاظ عليه كإنجاز تاريخي، وذلك بمواصلة إحيائه وكتابته وتدوينه ورسمه وتصويره والتأكيد على دلالاته ومعانيه النبيلة ليكون حاضراً في وجدان أبنائنا وذاكرتهم.

بالطبع لن ننكر عشرات المسرحيات والمسلسلات التلفزيونية والأفلام السينمائية الروائية والتسجيلية والتوثيقية التي أرّخت لتلك المرحلة وقدّمها المبدعون السوريون من زوايا مختلفة، لكن ستصادفنا الكثيرُ من الأسئلة، ونحن نتابع بطولات وانتصارات مقاتلي الجيش العربي السوري في دفاعهم اليوم عن الوطن بمواجهة الحرب الإرهابية التي تُشن على البلاد منذ ما يزيد على ثماني سنوات، وتذكّرنا ببطولات وانتصارات تلك الحرب.

فقد حقّق السينمائيون بدءاً من عام 1973 أفلاماً وثائقية وتسجيلية عدة نذكر منها: “حول معارك تشرين” وهو أول فيلم وثائقي تنقله الكاميرا من قلب المعركة, و”التحرير” ويلخص في ساعة ما حدث خلال حرب تشرين، ثم معارك الاستنزاف، و”النازية الجديدة” الذي يقارن بين أعمال النازية خلال الحرب العالمية الثانية وما فعلته العصابات الصهيونية في عدوانها على الأراضي العربية المحتلة، فضلاً عن الفيلم الذي كتبه الراحل ممدوح عدوان بعنوان “أهلا بكم في دمشق” وأكد فيه أن سورية ستكون مقبرة لمن يعتدي عليها وعلى أبناء شعبها، والفيلم الروائي القصير “تل الفرس” للمخرج لطفي لطفي عن قصة للدكتورة ناديا خوست ويتحدث عن صمود الجنود السوريين وروح الفداء العالية التي تمتعوا بها خلال المعارك, وقاتلوا فيها حتى اللحظة الأخيرة، والمخرج فيصل الياسري في فيلمه “لعب أطفالنا الجديدة” حيث تحوّلت أشلاء طائرات العدو إلى لعب للأطفال، وفيلم “وجاء تشرين” للمخرج وديع يوسف الذي أظهر انكسار عنجهية العدو وأسطورة الجيش الذي لا يُقهر، وفضح أيضاً همجية العدو الصهيوني في فيلمه “القتلة” من خلال لقاء مع طيار إسرائيلي وقع أسيراً بعد أن تمَّ إسقاط طائرته التي كانت تقصف أهدافاً مدنية، وأيضاً فيلم “العودة” للمخرج مروان حداد الذي يكشف من خلال حوارات مع بعض العائدين إلى ديارهم في مدينة القنيطرة المحررة، ما عانوه من قبل، وأحلامهم وآمالهم التي لم تنطفئ طوال ست سنوات من الاحتلال، وطبيعة أحاسيسهم وهم يعيشون لحظات التحرير، ونرى في الوقت نفسه حجم التدمير الهائل والوحشي الذي لحق بمدينة القنيطرة المحررة. أضف إلى ذلك الأفلام الوثائقية المتميزة التي قدمها التلفزيون العربي السوري ونذكر منها “القنيطرة حبيبتي” لأمين البني، و”تحية من القنيطرة” لوديع يوسف، و”صفحات من أوراق الجولان” لبشار عقاد، وفيلم “جنود فلسطين” للمخرج محمد الرفاعي، الذي يتحدث عن الدور المميز والبطولات الفذة لجيش التحرير الفلسطيني، ومن ثم “زهرة الجولان” لصلاح دهني، و”اللحن الحزين” لـ لطفي لطفي، و”حصاد تشرين” لمنير جباوي، و”الدرع الحصين” لبشير صافية. وتالياً الأفلام السينمائية الطويلة التي وظّف فيها المخرج عبد اللطيف عبد الحميد وقائع تلك الحرب في “ليالي ابن آوى” وفيلم “ما يطلبه المستمعون” لنرى أسطورة الجندي السوري وامتزاج دمه وروحه بالأرض التي يدافع عنها، كما استطاعت الفنانة سلاف فواخرجي في فيلمها “رسائل الكرز” التقاط لحظة رفع العلم السوري في سماء القنيطرة لتخليد تلك اللحظة واستعادة ذكريات تلك الحرب.

أما الدراما التلفزيونية فقد اكتفت بتمثيلية “عواء الذئب” للمخرج شكيب غنام عن قصة واقعية لرجل سوري يأسر طياراً إسرائيلياً، ثم تمثيلية “العريس” لشكيب غنام أيضاً، وسلطت الضوء على قيمة الشهادة وحالة التماسك التي ميّزت المجتمع السوري إبان تلك الحرب. فيما تميّزت تمثيلية “الولادة الجديدة” التي أخرجها غسان باخوس بإبراز عمق العلاقات الاجتماعية بين السوريين ووقوفهم إلى جانب بعضهم البعض ونسيانهم لكل الخلافات أمام إيمانهم المطلق بحرية الوطن وكرامة شعبه، ومن ثم مسلسل “رجال الحسم” للمخرج نجدت أنزور الذي قارب هذه الحرب بشكل مختلف عبر حكاية عن ضابط سوري استطاع اختراق شبكة للموساد الصهيوني في أوروبا.

لكنّ الأسئلة التي أشرنا إليها آنفاً وستصادفنا ونحن نستعرض هذا الكمّ من الأعمال الفنية، لابدّ أن تتردّد مرة أخرى لنقول: لماذا تغيبُ هذه الأعمال عن ساعات العرض في شاشاتنا الوطنية، وهل تكفي هذه الأفلام والمسلسلات القليلة نسبياً لتوثيق ومقاربة هذا الحدث المفصلي في تاريخ سورية، وأين المشروع الوطني الذي يؤرّخ للحروب التي خاضها الجيش العربي السوري وكان فيها مثالاً للشجاعة والبسالة والتضحية، وهل ستبقى تلك البطولات، ومنها 6 تشرين الحاضر الغائب درامياً؟.

عمر محمد جمعة