يستحقون “نوبل” للإرهاب
واهمٌ من يعتقد أن نبع إرهابه قد يتحوّل، بأيّ حال من الأحوال، إلى “نبع السلام”، وأحمق من يروّج لعدوان حروبه تحت غطاء الإنسانيّة وتحرير الشعوب، وعلى الرغم من أننا في عالم اضطربت فيه كل المعايير، وانقلبت فيه كل القيم والمفاهيم وسط ضياع شبه تام للسّلام بجوهره الحقيقي وقيمه، وحتّى في جوائزه، أحياناً، إلا أنّ الحق بيّن والسلام بيّن، مهما حاولوا تغييبه أو تغيير معانيه، فللحقّ جولاته، وللسّلام أهله، والتّاريخ يشهد..
مُنحت مؤخراً جائزة نوبل للسلام لرئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، لجهوده الرامية للسلام مع إرتيريا، وكانت كل التوقعات تشير إليه ضمن سلسلة من المرشحين تجاوزت ٣٠٠ مرشح، من ضمنها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي سعى للحصول على الجائزة وبكل الوسائل، سراً وعلانية، وحين فشل مسعاه، أعلن حربه على “نوبل”، ساخراً من الجائزة التي أعطيت لأوباما من قبله، مستنكراً سبب حصوله عليها.
“السلام” الذي يريد ترامب أن يُتوّج نفسه بجائزته مختلف تماماً، لأنه في حقيقته إنّما يجسد الإرهاب ذاته في ظل عنصرية غير مسبوقة وممارسات عدوانية تجاه الشعوب وسياسات استبدادية قائمة على اغتصاب الأرض وسلب الحقوق، وحروب معلنة ضد الدول بالحصار وبالعقوبات التي تبدأ ولا تنتهي.
للوهلة الأولى، قد نستغرب الثقة التي يتحدث بها ترامب، وهو يعلن أن الجائزة يجب أن تكون من نصيبه، لكن هذه الغرابة لا تلبث أن تنجلي في ظل سرد تاريخي لهذه الجائزة، التي استطاع غيره من عرابي الحروب في العالم الحصول عليها، بدءاً من مناحيم بيغن رئيس وزراء الكيان الإسرائيلي الأسبق، الذي يزخر سجله بالكثير من المجازر ضد الشعب الفلسطيني والعرب، وستبقى مجزرة دير ياسين، ومجزرة صبرا وشاتيلا التي راح ضحيتها الآلاف من أرواح الفلسطينيين، شاهدة على ذلك، مروراً بشمعون بيريز الرئيس السابق لكيان الاحتلال الذي حصل على الجائزة أيضاً، وهو من ارتكب مجزرة قانا وعشرات المجازر الأخرى ضد الفلسطينيين، وقاد عملية “عناقيد الغضب” على جنوب لبنان، التي أودت بحياة المئات من الشعب اللبناني، وصولاً إلى زعيمة المعارضة البورمية، أون سان سو تشي، الحاصلة على جائزة السلام، رغم تقاعسها في الدفاع عن حقوق الأقلية في الروهينغا، حين شنت السلطات في ميانمار حملة تطهير عرقي، ضد أقلية الروهينغا الذين اضطروا إلى الهروب خارج البلاد خوفاً من ممارسات جيش ميانمار.
المسألة إذن هي أن جائزة السلام لا تعبر عن جوهر السلام لأنها تمنح لمرتكبي جرائم الحرب، من هنا يحق لترامب، ولغيره من أعداء السلام، أن يطالب بالجائزة التي إنما أرادها نوبل تكريساً لرسالة السلام بين البشر.
لم يعلم ألفرد نوبل أن مشروعه الذي رصد له جلّ ثروته في سبيل نفع البشرية قد أثمر جوائز قد تهدى لمجرمي الحروب في العالم، ولو علم ذلك لكان نسف مشروعه برمته وأنهاه في مهده، نوبل الذي حاول التكفير عن ذنبه غير المقصود، حين اخترع الديناميت، كان على يقين أن هذه الجائزة ستأخذ على عاتقها مسؤولية نشر رسالة السلام لكل البشر، مهما اختلفوا في العرق أو اللون أو الدين، ولم يعلم أن معاني السلام ستكون مغايرة تماماً لما أراد، وأن السلام الحقيقي الذي سعى إليه سينقلب إرهاباً، وأن أهم رموز الخراب والقتل والدمار في العالم سيكونون “رموز سلام” مزيف، ما هو إلا مطية جديدة للمزيد من “اللا سلام”.
وسط هذا العالم الغارق في أتون الحروب والنزاعات والمعايير المزدوجة والمحاولات اللاهثة للتحكم الفكري والثقافي الذي تمارسه القوى العالمية الكبرى وأذرعها للسيطرة على الأمم تحت ستار ادعاءات السلام والإنسانية والحفاظ على الحقوق، هنا يبرز دور الشعوب ووعيها الفكري في تحقيق سلامها الحقيقي الخاص وترجمته عملياً، بعيداً عن الانقياد وراء المفاهيم المزيفة والدخيلة، فالسلام يسطره أهله من رعاة السلام، وليس من يدعونه أو يتوجون بجوائزه، وصناع السلام الحقيقيون لا ينتظرون جوائز تكللّ جهودهم، بل ينتظرون شعوباً تعيش السلام وتكرّسه فكراً ومنهجاً وأسلوب حياة.
البعث ميديا – هديل فيزو