العتابا بين التراث والذوبان في الإيقاع الغربي
يواجه الخطاب الموسيقي العربي العديد من التحولات التي شملت جوانب أساسية والمتمثلة في العناصر الداخلية للعمل الإبداعي، إما من ناحية المضمون الذي يحمل الخصوصيات الفنية التراثية تميزه عن بقية الأنماط الموسيقية، أو من ناحية أخرى و المتمثلة في العناصر الخارجية، والتي تعنى بالشكل الخارجي للعمل الموسيقي، و لكن يبقى الرهان في علاقة الأعمال الموسيقية بإطارها الإبداعي وتموقعها بين الأصالة والتجديد من خلال المحافظة على طبيعة الهوية في الإنتاج الموسيقي الجديد.
و في الوقت الذي كثر فيه الحديث عن القرية العالمية وعن ثقافات أحادية الجانب بدأت تفرض على المجتمع العربي تحت شعار العولمة، بدأت الشعوب والحكومات تبحث عن ثقافاتها التي تعبر عن هويتها وتنوع هذه الثقافات وهذا التراث، لاسيما أنه ما من شعب أو أمة إلا وتملك ذخيرة من التراث الشعبي الذي يعطيها طابعاً خاصاً لا يجوز لأحد المساس به وسوء استخدامه أو ادعاء ملكيته ومن خلال هذا الطابع يمكن للشعوب، في جو و من الحرية أن تساهم في زيادة التنوع الثقافي العالمي وإثرائه وبالتالي أخذ دورها كاملاً في هذا التنوع .
و لعبت الموسيقا العربية كما توضح ريم صقر، ماجستير تأهيل و تخصص في التراث الشعبي في كلية الآداب بجامعة دمشق لـ”البعث ميديا”، دوراً كبيراً في تطور الموسيقا الغربية، واعتبرت مؤلفات العلماء والفلاسفة العرب في القرون الوسطى أساساً بنيت عليه علوم الحضارة الغربية، وعلى الأخص الموسيقا و أخذت بعد ذلك الموسيقا الغربية بالازدهار المطرد بينما راوحت الموسيقا العربية مكانها وبدأت تتأثر بشكل واضح بالموسيقا الغربية، وقد بانت ملامح هذا التأثير والتأثر في القرون الوسطى ودخول العرب الأندلس و قيام زرياب بنشر تقاليد مدرسة بغداد الموسيقية في الغرب وتأثر الموسيقا الإسبانية بالموسيقا العربية حيث امتد هذا التأثر إلى ايطاليا وباقي دول أوروبا كما كان لقدوم بعض الموسيقيين من بلاد الفرس والروم الذين حملوا معهم ألحاناً جديدة وآلات طرب مختلفة الأثر الواضح في الموسيقا العربية إضافة إلى الدور الواضح للبعثات الدراسية والمؤتمرات الموسيقية في ماهية هذا التأثير .
وبينت صقر أن الشعر الفلكلوري كصرح من صروح التراث الشعبي، حاز في الآونة الأخيرة على اهتمام الباحثين بعد أن تبين لهم مضاهاته لصنوف الشعر الأخرى القديم والحديث والمترجم، وإذا ما بادرنا إلى دراسة هذا الشعر في التراث الشعبي نجد “العتابا” في صدر صرحه، فالعتابا ضرب من ضروب الشعر الشعبي في وادي الفرات، وقد اختلف العلماء حول أصل التسمية لكن من الواضح أن التسمية مأخوذة من العتاب، ويؤكد ذلك أن أغلب أغراضها عتاب، وهي بيت واحد تتكاثف فيه المعاني، ليصل لمرتبة القصيدة، لما تحمله من بلاغة في التعبير ودقة في التصوير، مكون من أربعة أشطر على شكل بيتي الشعر العمودي، وزنه العروضي على البحر الوافر، و الكلمة الأخيرة من كل شطر من الاشطر الثلاثة الأولى متطابقة باللفظ مختلفة بالمعنى “جناس” ، أما الشطر الرابع يتم تسميته العتابا.
وتابعت صقر للعتابا أطوار موسيقية متعددة، وتغنى العتابا من جميع المغنين، لكنها تحتل مقدمة الأغاني فقط، وتزامن انتشارها لدى البدو من سكان البادية مع بدايات عهد الاستقرار، وبقيت فنون أخرى منتشرة لديهم، يؤدونها في حلهم وترحالهم، كالحداء والجنابي والقصيدة الشروقية، لذا نجد أن التراث الشعبي يعد مرآة لحضارة الأمم وتاريخ لمن مر عليها من أقوام عبر العصور حيث يعمل على تفسير الفترات التاريخية السابقة وبما تميزت كل أمة عن غيرها بتراثها الشعبي الذي ترك لها بصمة واضحة بين الأمم الأخرى وهو يشكل عادات الناس وتقاليدهم وما يعبرون عنه من أراء وأفكار وفنون تناقلت من جيل لأخر .
والعتابا فن من فنون الموسيقا التي هي جزء مهم من الثقافة العربية و واجبنا الحفاظ عليها من التغريب الكامل أو الذوبان والاندثار في الإيقاع الغربي الجامع بحجة التطوير لا حرج من الانفتاح والتأثير والتأثر المتكافئ مع الموسيقا الغربية شريطة أن لا يمس لب الفنون الشعبية الموسيقية ، بأن تبقى الموسيقا العربية هي مشعل طريق الأجيال الفني بإعادة استنباط الفن الموسيقي العربي الأصيل الذي خطه العلماء الموسيقيون العرب والفلاسفة وأناروا به الطريق الفني في حضارة البشرية .
وأشارت صقر إلى تأثير الموسيقا العربية بالموسيقا الغربية وعلومها واعتبارها أساسا بنيت عليه الموسيقا الغربية، و تأثر فنون الغناء العربي بالتقنية الصوتية الغربية في الغناء، وتأثر الموسيقا العربية بالموسيقا الغربية عن طريق اقتباس بعض الإشكال والصيغ الآلية والتأليف أو التلحين في هذه الأشكال الصيغ، إضافة إلى تأثر الموسيقا العربية بالموسيقا الغربية عن طريق استخدام موازين إيقاعية شائعة الاستخدام في الموسيقا الغربية.
وكانت المحاولات في تطور الموسيقا السورية من خلال مفهومها النظري أو التطبيقي تسعى إلى مواكبة التحولات التكنولوجية في شتى المجالات و لكن المعادلة بين المحافظة على التراث وتجديده في آن واحد تبقى دائماً صعبة باستناد للتيارات المضادة التي نعايشها ولعل هذا يحيلنا الآن إلى ضرورة وضع استراتيجيات تضمن المحافظة على المخزون الثقافي من خلال دعم وجود الموسيقا التراثية في المحيط السمعي للمتلقي العربي ووضعه على ذمة الناشئة تحميه من الاندثار أو التخبط فالوضع الموسيقي يسير نحو الانحدار ولاشك أن غياب وتغييب النقد المتخصص والتقويم الجيد المبني على أسس علمية من أهم الأسباب التي تؤثر في التربية وبناء الشخصية كما أن للإعلام دور كبير في انحدار وفقدان الذوق والحس الفني وكذلك استخدام الشباب للأجهزة الحديثة من الانترنت وغيرها
وترى صقر ضرورة العمل على تحقيق البنية التحتية اللازمة لقيام فن موسيقي وغنائي محترم ولائق في سورية، و ضرورة جمع هذا التراث وحفظه وجعله مادة للدراسة العلمية ورصد ميزانية لتأسيس كلية موسيقية ورفدها بالطاقات والكوادر الوطنية المتوفرة وطاقم من خبراء علم تدريس فنون الموسيقا وعلم موسيقا الشعوب كما في الكليات العريقة وتنظيم الفعاليات الفنية الراقية إضافة إلى أهمية التدوين والتحليل والتصنيف للموسيقا الشعبية السورية، و تفعيل دور نقابة الفنانين الموسيقيين لتلم شملهم المشتت وتساهم في رسم الخطوط العريضة لمسار تطور الموسيقا والأغنية السورية وتقف بصلابة لوقف الانحدار الحاصل للأغنية بشكل عام ووضع الشخص المناسب في المكان المناسب عند اختيار أصحاب الاختصاص من الموسيقيين في وزارتي الإعلام والتربية والتعليم، إضافة إلى إعادة الاعتبار للفنان السوري في وسائل الإعلام وغيرها والقبول والإقرار بدوره في فريق العمل وتسويق إبداعه، ووقف عملية إقصاء الموسيقا من المدارس الحكومية وإتاحة الخيارات أمام الطلبة وأولياء أمورهم من دون حرمانهم من اختيار تعلم الموسيقا في كل المدارس دون استثناء وإدخال الوسائل الحديثة لعلم تدريس الموسيقا وتأهيل مدرسي المادة للتعامل مع معها وتوفير المصادر المتنوعة والضرورية لذلك، وترميم قسم الموسيقا في الكتبة العامة وملء الرفوف الفارغة بما جد واستجد والعمل على إعادة ما نهب مننها وتطوير المصادر والتقنيات ودعمها بالأجهزة اللازمة وعصرنتها، والتعاون بين وزارة الثقافة والإعلام وافتتاح قناة فضائية للتراث الشعبي السوري تعرض فيها الأعمال الفلكلورية القديمة والمطورة.
أما على المستوى العربي لفتت صقر إلى ضرورة العودة إلى منابع الفن الموسيقي العربي الأصيل كفن العتابا مثلاً وإعادة إحيائه، مع العمل على نشر الثقافة الموسيقية العربية، وإقناع الآخر بها عن طريق إحياء القوالب والأشكال الموسيقية والغنائية التقليدية العربية التي كانت سائدة في العصر الذهبي للموسيقا العربية مستفيدين من عصر العولمة، والحد من استخدام تقنية الغناء الغربي في الغناء العربي والعودة إلى التطريب الذي يميز الغناء العربي، و الحث على استخدام الآلات الموسيقية العربية وآلات التخت الشرقي والآلات الشعبية ضمن الفرق المصاحبة للغناء العربي، و العمل على إنشاء المراكز البحثية وتشجيع الأبحاث العلمية التي تعنى بتاريخ الموسيقا العربية ونظرياتها والتراث الشعبي وفنونه وتشجيع انتشار هذا المنتج العلمي في الغرب لتحقيق الوسطية في معادلة التأثير والتأثر، و ضرورة الاستفادة من الأنشطة المدرسية والجامعية واستغلال المناسبات والإمكانات المدرسية كالإذاعة المدرسية وحصص بعض المواد التي لها ارتباط خاص بالآثار والسياحة لتوعية الطلاب بأهمية التراث الشعبي والمحافظة عليها، و جعل التراث الثقافي والفني وسيلة من وسائل المساعدة على اتخاذ القرارات الهامة في مسار الأمة باعتباره من الركائز الأساسية المكونة للهوية العربية، والدعوة إلى تطوير المناهج المدرسية الموسيقية بحيث تتضمن دروساً تتحدث عن التراث الشعبي الموسيقي.
البعث ميديا – فداء شاهين