الحياة الحزبية المعاصرة: البعث والتصحيح
لم تشهد التجربة الحزبية في العالم، في أي من مراحلها، جموداً وسكوناً، فهي تتأثر بالمتغيّرات الفكريّة والاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة، لكن ما حدث في القرن الحادي والعشرين، والذي كان بدأ قبل العام 2000 بأكثر من عقد من السنين، هو المتغيّر الأوسع والأسرع مفارقة في التاريخ الحزبي الحديث والمعاصر في العالم، وفي هذه المنطقة تحديداً التي شهدت تيارات حزبية وسياسية عديدة.
هذه المتغيرات جعلت الحاجة ماسة إلى المراجعة النقدية لعمل هذه الأحزاب ولنظريتها، ودفعت بأغلبها إلى تقديم الاستراتيجية على الإيديولوجية، وإلى القناعة في أغلب الأحيان بأهمية المصالح قبل الثوابت.
اليوم تواجه الأحزاب العربية التي نشأت في معمعان حركة التحرر الوطني والاستقلال العربي مشكلة ليست باليسيرة حين تقوم بجردة حساب واقعية نحو حصيلة تاريخها النضالي قياساً إلى ما تحقق من أهدافها. وما لم يتحقق بعد، وما لن يتحقق، حسب ما ترى شرائح واسعة من الأجيال الطالعة.
وللحقيقة فإن “أداء” الأحزاب العربية ليس وحده المسؤول عن تعثّر التجربة الحزبية العربية، لأن ذلك لا يتعلق بأداء هذه الأحزاب فقط، بقدر ما يتعلق بالبنية التقليديّة للمجتمعات العربيّة التي أظهرت مؤخراً ميلاً واضحاً، ولم يكن متوقّعاً، إلى الأحزاب ذات “الهوية الجزئية” والانتماءات الضيّقة، وإلى النأي بالنفس وبالجماعة عن الهويّة الوطنيّة القوميّة التقدميّة التي كانت مرغوبة ومنشودة في القرن الماضي، ولهذا أسبابه.
لم يكن حزب البعث العربي الاشتراكي بمنأى عن هذه المظاهر، لا في نظريته، ولا في عمله، ولا في أدبياته، ولا في استراتيجيته أيضاً. ولا شك أنه سؤال مشروع من قبيل: إذا هِبْتَ أمراً فقَعْ فيه فإن شدّة توقيه أثقل عليك من مواجهته. والسؤال: ما الذي تحقّق من أهداف البعث ومن شعاراته، من أمة عربية واحدة، ومن وحدة حرية اشتراكية… بعد تاريخ نضالي حافل تجاوز الـ 70 عاماً؟!
في سياق الجواب، وليس التبرير، يجب التأكيد على أنه ثمّة الكثير من العوامل الداخلية، والخارجية المعقدة، التي تجعل تنفيذ أهداف الحزب مسألة ليست باليسيرة، بل شديدة الصعوبة، فلا يجوز الحكم على دور الحزب وعمله، بل ومسيرته كلها، دون أخذ هذه العوامل بالحسبان، ومنها الواضح هذه الأيام من تجدد المواجهة وتطورها وتعقّدها عن القرن الماضي مع الاستعمارين العثماني والغربي، ومع الصهيونية والرجعية العربية… وصولاً إلى أجيال من الحروب لم تكن معهودة من قبل.
ومنها أيضاً أن أهداف الحزب، التي هي أهداف وطنية وقومية، تشكّل قلب المشروع النهضوي العربي، وتحتاج إلى أكبر حامل سياسي وطني وعربي مؤهَّل للقيام بهذه المهمة التاريخية. وفي غياب هذا الحامل “الكتلة التاريخية كما يسميه البعض” أو تراجعه أو تعثره، فإنه يُحسب لحزب البعث أنه كان، ومازال، وسيبقى بمثابة القلب النابض في جسد هذه الكتلة.
ومنها أيضاً ضرورة منع تسرّب اليأس من المشروع ومن الفكر القومي العربي إلى الأجيال الطالعة، والقلق من الإجابة عن السؤال: إذا تراجعنا فإلى أين سنذهب؟!، فالتعثر لا يعني التراجع، ولا الفشل، ولا عدم الصلاحية، فطاقة الحزب وروحه قابلة للتجدد والفاعلية، ولاتزال منشودة.
ومنها إن استمرار البعث، وتمسّكه بأهدافه في بيئة إقليمية ودولية معادية، لهو دليل على الزخم النضالي الذي يمتلكه هذا الحزب، وعلى أن مشروعه “أهدافه وشعاراته” مشروع واقعي يرقى إلى مرتبة الضرورة الحيوية لنهوض الأمة في بقعة جاذبة من العالم قال فيها الرفيق الأمين العام للحزب الرئيس بشار الأسد أثناء استقبال سيادته مستشار الأمن الوطني العراقي يوم 17/10/2019 : (إن الأطماع الخارجية بدول منطقتنا لم تتوقف عبر التاريخ…).
ولذلك يتطلب عمل الحزب وفكره إعادة قراءة ومراجعة نقدية مستمرتين، وهذا ليس غائباً، فروح التصحيح مستمرة، وهي حالة طبيعية في حياته، بل هي فعل ضروري لاستمراره، ولتعزيز قدرته على مواكبة الواقع والاستجابة لتحدياته المتنوّعة والمتجدّدة.
ومن هنا فإن أهمية الحركة التصحيحية التي أنجزها القائد التاريخي حافظ الأسد لا تنبع فقط من إنجازاتها الكبيرة والعديدة، بل تنبع أيضاً – وهذا ما يجب التأكيد عليه ونحن نحيي ذكراها التاسعة والأربعين – من إثرائها لمفاهيم التطور والتجدد والنقد والمراجعة فكراً وممارسة، وبما لا يترك مجالاً للقلق إثر تعديل المادة 8 من دستور 1973 إلى المادة نفسها في دستور 2012 (التعددية السياسية) ولا حتى من عمل لجنة مناقشة الدستور اليوم.
فلا تزال قطاعات واسعة من شعبنا على يقين من أن (قوة الدولة ومؤسساتها الوطنية هي من قوة الحزب)، وهذا واضح من القراءة الوطنية والعلمية لمحطات عديدة في تاريخ الحزب النضالي في أعوام 1952 – 1958 – 1963 – 1966 – 1970 – 2000 – 2005 وصولاً إلى هذا المعترك المصيري الصعب الذي يؤكد أن استهداف الحزب فكراً، ومؤسسات، وكوادر هو في سياق استهداف قضايا الشعب والوطن والأمة، والحقوق والمصالح، والهوية والوعي والانتماء. وهذا ما يوهِن العزيمة ويبث روح الإحباط واليأس ويضعف الثقة.
ولذلك يرى أغلب رفاقنا أن الموقف من مؤسسات الحزب وكوادره لا ينفصل عن الموقف من الحزب نفسه، خاصة في هذه المرحلة الصعبة من جهة، والتي يعمل فيها الحزب بشكل واضح على تطوير بنيته التنظيمية والفكرية، وعلى نتيجة هذا العمل تكون موضوعية الموقف.
د. عبد اللطيف عمران