الاستلاب الفكري في التواصل الاجتماعي
في مواقع التواصل الاجتماعي تغيرت سلوكيات الأفراد في تلاقح الأفكار، وفي الجدال، وفي الاستنتاج، وانقلبت حتى طريقة تفكير الفرد، واقتحمت الأيديولوجيات المختلفة عقله وهو جالس في بيته، فيما كان في السابق يستمد مجهزاته الفكرية من الكتاب والصحيفة وحلقات الأصدقاء، وعلى المستوى الديني الإيماني لم يكن من مصدر للمعلومة والتوجهات الدينية إلى وقت قريب سوى تلك الذرائع المحدودة في الخطاب سواء في المسجد، أو المحيط، أو التلفاز، المذياع الذي كان يسهل على السلطات مراقبته وتوجيهه، لقد انتهت تلك الوسائل المتواضعة في التأثير كما تبدو اليوم لمصلحة التراسل الفوري، لكن الوسائل الجديدة لم تنه طرق الأدلجة التي يسعى إليها الأفراد والجهات، مثل حزب يسعى إلى استثمارها لمصلحته، ورجل الدين يسوق أفكاره من خلالها، وجهة سياسة تنشر أفكارها وأجندتها.
نحن أمام عصر جديد ربْح الجماهير يتخطى المنهج الكلاسيكي في الخطاب والاجتماع والصحيفة والكتاب، نحن أمام ثورة عارمة من الفيض المعلوماتي الذي يحطم حواجز الممانعات الفكرية وطرق التحصيل الفكري التي شيدتها السلطات والعقائد، بسبب ذلك لجأ البعض إلى طرق جديدة في التعزيز الفكري القائم على النصيحة والإرشاد والمناصحة بالتعبير الديني وعبر ذلك التنظيم آلاف الأشخاص في أيديولوجيات مختلفة، من ذلك أن التنظيمات الإرهابية كسبت الاتباع عبر وسائل التواصل، ونجحت في الترويج لايديولوجياتها القاتلة، لكن وسائل التواصل الحديثة، والسريعة في عظمتها وقدرتها على الترابط الشبكي اللحظي، لم تفرغ من السلوك الإنساني الاستحواذي على الآخر، والسعي إلى استلابه فكرياً بالتهديد والتفريغ، فمن جهة تتطفل على خصوصياته ومن جانب آخر تحاول إغراءه بالخوارق واللامعقوليات والمعلومات المضللة، هذا الأمر ليس على مستوى السلطات أو التنظيمات السياسية لاسيما الإرهابية منها، فحسب بل على مستوى علاقات الأفراد ببعضهم، وهو ما يجب توضيحه، ثمة أفراد يتطلعون إلى بسط أفكارهم على نطاق واسع، وهو حق طبيعي لهم، لكنهم يتصرفون مثل أي سلطة جبرية، وتنظيم متشدد إلى فرض الرأي وتهديد المخالف، يلجأ هؤلاء أيضاً إلى النصيحة بالطريقة الأبوية الفكرية والسياسية، فكأنهم أوصياء على أصدقائهم في التواصل الاجتماعي، يسعون إلى حمل المقابل على القبول بأي كيفية، حتى أخفقوا هددوه بإلغاء الصداقة، بل فضحه عبر نشر محادثات ومداولات تتضمن أسراراً وتفاصيل خاصة، هؤلاء يتصرفون مثل أي ديكتاتورية، ومثل أي مبتز، فهم يتدخلون في حياة الناس عبر وصايا فردية على مستوى الإيمان الديني أو الحزبي، أو حتى الاجتماعي، ويعتقدون أنهم جديرون بإلقاء النصائح لأنهم على حق مطلق وغيرهم على خطأ، إن عالم التواصل الاجتماعي يقوم على أساس من حرية الطرح واستيعاب الآخر، ومن حق الجميع نشر معتقداته على نطاق واسع، كما أن حقه إبداء الرأي والإرشاد، لكن ليس من حقه فرضه، على من لا يود سماعه، مثلما لن يكون من حقه أن يحول عصر التواصل والتراسل الفوري إلى صحوة جديدة على مقاساته الفكرية على غرار أساليب دعاة التفكير المسرحية.
د.رحيم هادي الشمخي
أكاديمي وكاتب عراقي