هل يعاني الاستشراق العربي حالة ركود فعلاً؟
ما هوي الاستشراق، ومن هم المستشرقون؟ ولماذا ينعي الاستشراق اليوم أوساطاً كثيرة؟ وهل يعاني الاستشراق حالة ركود فعلاً؟ وما هي المسوغات لذلك؟ وماذا عن الأزمة المنهجية للاستشراق؟ أسئلة عددية نطرحها اليوم ونحن نعيش في أزمة ثقافية وسياسية ومجتمعية نتيجة الاحتلالات الأجنبية للوطن العربي.
عندما نناقش ماهية الاستشراق، نجد أن المهتمين بالمشرق قديماً كان منهم الرحالة والمبشرون والضباط، ورجال الإدارة واللغويون، واللاهوتيون، والأنثروبولوجيون، ومؤرخو الحضارات، والرحالة الرومانسيون، هذا إلى جانب التربويين، ورجال المخابرات والمؤرخين والاقتصاديين، وخبراء الأسواق التجارية، والسياسيين وذوي النيات الطيبة من المهتمين بحوار الشرق والغرب، وهؤلاء قد ساعدوا في تباين نتائج الدراسات ووجوه استغلالها، فحققوا نتائج إيجابية في عملية الاستشراق العربي في فترة كانت الثقافة العربية ترتدي صهوة المجد بين أوروبا والعالم العربي، لكن هناك ظواهر دالة للأسف تظهر اليوم عل اضمحلال الاستشراق والتي تتمثل في قلة ما صدر ويصدر منذ ثلاثة عقود من دراسات وبحوث استشراقية كلاسيكية، وفي تفاؤل عدد الذين يعرفون لغات الشرق من الدارسين الغربيين للعروبة والإسلام وحضارتهما، وقلة الاهتمام بتطوير معاهد الاستشراق، يجعل الاستشراق في حالة ركود فعلاً، أن حالة الركود التي يعاني منها الاستشراق، لا تنفصل عن حالة الركود الاقتصادي والثقافي بالغرب القديم، لكن ذلك لا يعني نهاية له، إذ إن الظواهر سالفة الذكر تبقى خارجية لا تمس جوهر التخصص ومتفرعاته، إنما يتهدد الاستشراق حقيقة مسائل أخرى تتمثل في:
أولاً: تخلف المناهج، حيث شهدت الكتابة العلمية بالغرب، وفي العلوم الاجتماعية تطورات ثورية تناولت مسائل الصورة التاريخية، وبنية النص، وعلاقة النص القديم بالدارس المعاصر وبالمجتمع الذي ظهر فيه، كما إن الأزمة المنهجية في الاستشراق وبعض فروع العلوم الإنسانية بالغرب مصيرية بالفعل، وهناك كثرة من المستشرقين اليوم لاتزال تجمع وتدقق في الجزئيات وتبحث عن تواريخ وفيات بعض الأشخاص وتزدرد وتمضع ما سبق لجولدزيهر، ونولدكه، ومرجليون، أن مضغوه ولفظوه، وربما كان هذا الإحساس بانسداد الطرق واللاجدوى، هو الذي دفع إناساً من المستشرقين لتلمس طرق أخرى للجدية والتجديد، ودفع جماعة أخرى للعودة إلى الوراء تماماً.
ثانياً: فقدان الخصوصية، فالاستشراق في نظر النقاد المعاصرين قام على أساس خصوصية معينة افترضها لهذه المنطقة من العالم، وهذه الصورة الخاصة اقتضت تضامنها في تخص مشترك وإجراء دراسات خاصة بها لكشف وجوه تميزها في تاريخ الشرق وتميزها عن الغرب، إن النقد هنا ينصب على كون الصورة المفترضة غربية بحتة، لا شأن لها بالمنطقة إلا من بعيد، وفي جزئيات معينة، كما ينصب على كون موضوع الشرق الأوسط في الاستشراق ودراسات العالم العربي المعاصر، بأمريكا (خصوصاً) وفرنساً وإنكلترا، موضوعات سياسية بحتة، وهي تتصاغر في النهاية بحيث تصبح تقارير لإرشاد الساسة الغربيين في التعامل مع هذه المنطقة، على أن نقاد الاستشراق القائم على الخصوصية، أمثال: أنور عبد الملك، وتيرنر وغران، وهاليدي، وأدوارد سعيد، وشولخ، وفلورس، على ما بينهم من تمايزات، يرون في صورة الشرق العربي والعالم الثالث والشرق الأوسط عند الدارسين الغربيين، تجليات للنرجسية، والمركزية الغربيتين التي لابدّ أن تزول في سياق عمليات العوالم الجغرافية والحضارية والسياسية المتغيرة والمناهضة.
ثالثاً: تعدد مجالات الاهتمام، فمستشرق هذا القرن اعتبر نفسه، واعتبره مجتمعه إلى حد ما، خبيراً مطلق الصلاحية في شؤون الشرق العربي والإسلامي، ولكن هذا الخبير كان ولايزال محدد القدرة على الفهم، ونستطيع أن نستشهد بدراسات كل من (كبروفيش) الذي كتب رسالة الدكتوراه عن زعيم بني شيبان إبان الإسلام (بسام بن قيس الشيباني) ودراسة (مارتن هارتمان) الذي اهتم باليمين قبل الإسلام ودراسة (كاسكل) الذي اهتم باليمين القديم وبقبائل الفرات والتي حاولوا من خلالها فهم التركيبة الاجتماعية والسياسية في عصر الإسلام الوسيط، إلا أن النتائج كانت مضحكة، وأن بعض الكتاب العرب يرون أنفسهم في مواجهة زحف حضاري جارف لا يستطيعون إزاءه غير الوقوف موقف الدفاع المتشنج، كما أن إصرار نقاد الاستشراق العربي، على عدم وجود تحديد معلوماتهم، مما أدى إلى تحويل القضية إلى نمطية مكررة تتجاهل حتى الأسماء وعناوين الكتب، فالاستشراق إذاً عند الكثير من الكتاب العرب المحدثين والمعاصرين هو الوجه الحقيقي للسياسة الجديدة في الشرق، وسنظل كمثقفين عرب مشغولين بمشكلات العلاقة المعقدة هذه في ظل الخلل الفاضح في وجوه موازين القوى والفعالية، وآخر تلك المسائل أن الاستشراق سيظل حاضراً في سائر تخصصاتنا ذات البعد التاريخي باعتباره جزءاً من تاريخ الفكر، ولكن هذا لن يتحقق إلا بتغيير علاقتنا بالغرب لصالح الندية والمشاركة الفاعلة وظهور أجيال من الباحثين العرب ينتجون معارف حضارية وتاريخية تعتبر بمثابة مراجع للشباب والمراكز البحثية في العالم المتحضر.
د.رحيم هادي الشمخي
أكاديمي وكاتب عراقي