“تجار الشعوب”.. حين تتحول المصائر إلى “صفقات”
لم يعد مستغرباً الانحياز الأمريكي العلني للكيان الإسرائيلي، فهو الدّاء الذي بات متأصلاً عبر تاريخ الرئاسة الأمريكية، في سياساتها وخطاباتها وحتى قراراتها، وفق توجه يصوّر أعلى درجات الانحراف للباطل، أمام تجاهل مطلق ومتعمد للحق، لكن ما يضاعف الإحساس بالمصيبة هو التمادي في الأمر للوصول لإدراج مصائر أوطان وشعوب ضمن صفقات سياسية دنيئة، تقوم على التلاعب بها وإخضاعها لسياسة “التربّح” الأمريكية، واستغلالها في الترشح للسباق الرئاسي.
لم يتورّع ترامب في خطابه أمس عن التباهي بالانقياد التام للمطالب الإسرائيلية الباطلة، وتحقيق ما لم يجرؤ غيره من الرؤساء على تنفيذه، في مخالفة صريحة وفاضحة للقوانين والشرعية الدولية، وسط تفاخر بانتهاكات لم تقف عند الاعتراف بالقدس عاصمة للكيان الإسرائيلي ونقل السفارة الأمريكية إليها، وإغلاق مكتب البعثة الفلسطينية في واشنطن، بل إن الأمر وصل للاعتراف بالمستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، والأدهى أن يهدد الفلسطينيين في خطابه علانية بحرمانهم من الدعم المالي، وهو من أوقف تمويل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، وأمر بمنع تمويل المستشفيات الفلسطينية في القدس.
“صانع الصفقات” أثبتت له الأعوام التي قضاها في البيت الأبيض، أن صفقاته تلك لن تجلب له إلا المزيد من الخسارات المتتالية على مستوى السياسة الداخلية وحتى الخارجية، وبعد كل هذا الانحياز والأثمان الذي دفعها للاحتلال الإسرائيلي، والتي كانت محط انتقاد واسع، يقف ترامب في مشهد هزلي متوسلاً اليهود الأمريكيين، الذين اتهمهم بعدم الولاء، للتصويت لحزبه الجمهوري، في الوقت الذي تظهر فيه استطلاعات الرأي أن الغالبية ستصوت إلى حزب الديمقراطيين.
ترامب الذي يواجه حرباً قاسية لعزله منذ شهور بسبب سياساته المتهورة والأزمات الدبلوماسية المتكررة التي أقحم بلاده بها، بدأ يشعر بالخطر الذي يهدده على نحو جدي هذه المرة، وبات يتخبط خوفاً من خسارته في الانتخابات المقبلة، ورغم كل محاولاته المحمومة لصرف النظر عن إجراءات عزله بتجاهلها أحياناً، وباتباع أسلوب المناورة السياسية أحياناً أخرى، إلا أن هذه الإجراءات باتت الهاجس الذي يؤرقه، فهي وإن لم تنجح بعزله، بسبب أغلبية حزبه الجمهوري في الكونغرس، إلا أنها ستؤثر حتماً في نتائج السباق الرئاسي الأمريكي المقبل.
وفي الوقت الذي ينبغي فيه أن تلعب دور الوسيط السلمي الفاعل والمؤثر باعتبارها أحد أقطاب القوى في العالم، تثبت سياسة الإدارة الأمريكية، في كل مرة، وعلى مدار الأعوام السابقة، أن دورها يقتصر، فقط، على أن تزيد أزمات العالم تعقيداً، وأن تكون الخطر الذي يهدد السلم والأمن الدولي، والعبء الذي يعاني منه حتّى حلفاء أمريكا، وسط تخبط وصراع سياسي داخلي أمريكي واضح يترك البلاد على صفيح ساخن وينذر بالأسوأ.
هديل فيزو