ديوان العرب الجديد.. دعوة للإنصاف
بين الحين والحين تتهافت الأحكام الجاهزة لخوض حربها النقدية ضد الرواية العربية، لتجعلها أسيرة زوايا التقليد والتبعية، وتحشرها في خانة المحاكاة والنمذجة، فتحطّ من شأن نتاجها، وتتمادى في نقدها حدّ التجني، ثم تعرّيها من تاريخ كامل من التأليف والقدرة والتأثير، لتلغي تجارب روائية مازالت حية، وتنهي رحلة بعضها في مهده، مجردة إياها من قدرات وخصائص نجحت إلى حد كبير في الخروج من المعطف الغربي ونسج عباءتها المتفردة، وهويتها الخاصة.
وإن كان فن الرواية من الفنون الأدبية التي اقتنص الغرب حظوة السبق في التأليف بها، وإن امتلكت الرواية الغربية القدرة على التأثير في الفضاءات الثقافية الغربية والعربية، وبقوة، ولكن، وفي الوقت نفسه، لا يمكن للغرب نفسه إنكار أنه استوحى معالمها وبنيانها من التراث السّردي العربي بأصنافه وأشكاله المتنوعة، فقد يحمل شكل الرواية الطابع الغربي، لكنّ فن السرد، الحكاية والمقامة، هي فنون عربية أصيلة أفاد منها الغرب في خلق عوالمه السردية بمختلف أشكالها، ولعلّ الرواية أبرزها..
عدا عن ذلك، استطاعت الرواية العربية أن تفرض وجودها في العوالم السردية، وأن تحجز مكانتها في فن الرواية، حيث اختارت لنفسها الشكل الذي يناسب خصوصيتها، وانطلقت معلنة، في أغلب الأحيان، تمردها على منظومة فكرية ومجتمعية تنطوي في بعض تفاصيلها على الكثير من الجهل والتخلف، مختارة أفضل الأساليب الممكنة التي تتلاءم مع واقعنا لتحمل رسائلها الخاصة التي استطاعت أن تخلق أثرها في الفكر الجمعي وأن تحرك الوعي الراكد القائم على التغيير المجتمعي، بدءاً من لبنته الأساسية وهو الإنسان أو”الشخصية” العربية، ليحمل الروائيون عناء تطورها ومشقة محاولاتهم الدؤوبة لتحقيق الاختلاف والاستمرارية في آن.
المشوار الروائي النضالي والطويل في ظل واقع يحمل ما يحمله من الصّعوبات على كل المستويات، لم يبدأ بالـ “نجيب”، صاحب نوبل، الذي احتوى العالم في “حارته” من خلال رواياته التي وصلت العالمية، كما لن يقف عند “عبقري الرواية العربية”، الطيب صالح الذي صُنفت روايته “موسم الهجرة إلى الشمال” كواحدة من أفضل مائة رواية في العالم، ولم يكتف بالمكافح شيخ الرواية حنا مينه، وبأيقونة الأدب عبد السلام العجيلي، وبالروائية غادة السمّان التي كتبت 31 كتاباً تمّت ترجمتها إلى اللغات المختلفة، بل هي مسيرة روائية مستمرة مروراً بأحلام مستغانمي وواسيني الأعرج وأحمد خالد توفيق وحسن سامي يوسف وأحمد مصطفى، وغيرهم الكثير، ممن خطوا وما زالوا يخطون تجاربهم الروائية، في تحد حقيقي مع الذات، قبل تحدي المعوقات التي لا تنفكّ تفرض إيقاعها عليهم، يجمعهم الهم الأدبي، ويفرقهم جنوح كلّ منهم نحو التفرد وخلق الاختلاف.
وحالها حال أي مسيرة روائية؛ قد تتراجع الرواية العربية في مرحلة ما، وقد تخوض أشكال تجريب مختلفة، ومغامرات غير محسوبة النتائج أحياناً، قد لا تتناسب مع النوع السردي الخاص بها، وقد تبتعد عن قضاياها الأساسية وهموم مجتمعها وأدوارها المؤثرة، متجهة نحو الرائج والشائع، لكن ذلك يندرج في إطار حق التجربة الضرورية التي تمنحها التجديد وإعادة تشكيل جديد يبلور ركائز أساسية للانطلاق مجدداً فيما يناسبها ويتلاءم مع واقعها ومع المتطلبات الراهنة.
ورغم كل المعوقات والنظرة العامة القاصرة لأهمية فن الرواية في سورية، ورغم عزوف دور التأليف والكتب عن القيام بدورها الأساسي واللازم في هذا المجال، ومع كل هذه الحروب التي تجتاح مفاصل حياتنا، وتفرض إيقاعها المقيت على كل ما هو إنساني وتنويري، إلا أن هناك الكثير من التجارب الروائية التي كانت ومازالت تتحدى عتمة هذه الحروب للتأسيس لمدونة روائية جديدة تشكل امتداداً لما قبلها، ويكون لها الأثر والتأثير المطلوب، الأمر متعلقٌ بكمّ هائل من التجارب الأدبية التي تبحث عن النور، فبين الزوايا والأطراف والأزقة تقبع أقلام مغمورة، هي بحاجة للإنصاف، لتعلن ولادة مرحلة منصفة لديوان العرب الجديد..
هديل فيزو