الحروف العربية الجميلة
إن الحروف العربية، أو الأصوات اللغوية العربية، كما اصطلح عليها حديثاً، ليست سواء من حيث سهولة تحقيقها والتلفظ بها، فهي تتفاوت في مخارجها، وفي ما لها من ارتكازات مبثوثة من أقصى الحلق إلى الشفتين.
فأعمق الحروف مخرجاً تلك التي تسمى “حروف الحلق” وهي عند الخليل: ع ح ه غ خ، وجعل سيبويه “الهمزة” منها، ثم يلي هذه المجموعة حرفان هما ق ك، وهما لهويان، ينطلقان من مدرجة أخرى بعد الحلق، هي اللهاث وأما الـ “ج ش ض” فتسمى شجرية، والشجر مفرج الفم، ومن وسط اللسان، بينه وبين وسط الحنك الأعلى مخرج الجيم والشين، ومن أول حافة اللسان وما يليها من الأضراس مخرج الضاد، وتلي هذه المجموعة مجموعة الحروف الأسلية، وهي “ص س ز” وسميت كذلك لأن مبدأها من أسلة اللسان، وهي مستدق طرف اللسان، والطاء والتاء والدال نطقية، لأن مبدأها من قطع الغار الأعلى في الفم، والظاء والذال والثاء لثوية، لأن مبدأها من اللثة، والراء واللام والنون دولقية، وذولق اللسان كذولق السنان، بمعنى طرفه، والفاء والباء والميم شفوية، وسماها الخليل شفهية أيضاً، وللشفتين دور كبير في إخراج هذه المجموعة الأخيرة والتصويت بها، أما الواو والألف والياء فهي هوائية، ليس لها مخرج معين في جهاز النطق، وإنما يعد فراغ الفم كله مدرجة لها، فهي تنطلق في هذا الفراغ، لا يعوقها شيء، ولا تتوقف عند نقطة معينة في الفم، هذا هو ترتيب الخليل بن أحمد للحروف، ولسيبويه ترتيب آخر، يختلف قليلاً عن هذا الترتيب.
وهذه الحروف ليست سواء من حيث الصفات والخصائص، كما هي ليست سواء من حيث المواقع التي تنطلق منها في جهاز النطق بل إن تفاوتها في الخصائص يرجع إلى تفاوت مخارجها، فكلما كان مخرج الحرف عميقاً كان تحقيقه أو التصويت به صعباً، فالحروف التي تخرج من عضل اللسان أسهل من الحروف التي تخرج من أقصى الحلق، والحروف الشفوية أسهل من حروف هاتين المجموعتين لمرونة عضل اللسان والشفتين، وصلابة عضل اللسان والشفتين، وصلابة عضل الحلق.
وكان الخليل بن أحمد أول عالم عربي، وقف عند الأصوات اللغوية يتأملها، يلمس مخارجها، ونقاط ارتكازها داخل الفم، فوصف تلك المخارج وحددها، ثم راح بعد ذلك يتذوق الحروف، فوجد أن لكل مجموعة منها خصائص وطبائع لا تشركها فيها الحروف الأخرى، فأوضح لنا تلك الصفات، وجاء العلماء بعده، فوافقوه على ما انتهى إليه، وسلموا بما وصل إليهم من أقواله، فلم يزيدوا عليها إلا الشيء اليسير.
ومن العجيب أن النتائج التي وصل إليها علماء الأصوات المحدثون جاءت مطابقة لما وصل إليه الخليل مع أنهم لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه لولا اعتمادهم على أدق الأجهزة والآلات، واستعانتهم بالتشريح وعلم وظائف الأعضاء، أما الخليل فلم يعتمد شيئاً مما اعتمدوه، وكانت كل عدته في ذلك العهد المبكر هي عبقريته، ونفاذ فطنته.
فالحروف العربية إذن متفاوتة من حيث المخارج والصيغات: بعضاً سهل لا يجد الناطق به عسراً، وبعضها صعب يكلف ناطقة كثيراً من المشقة والجهد العضلي.
وأسهل الحروف نطقاً، تلك التي يظل معها النفس جارياً، لا يتعثر، ولا يتوقف عند مرتكز معين، وسميت هذه الحروف بـ (المهموسة) وهي: الهاء والحاء والخاء والكاف والشين والسين والتاء والصاد والثاء والفاء، ويجمعها قولك: سكت فحثه شخص، إلا أن “الكاف” و”التاء” من هذه المجموعة، حرفان شديدان، يصعب التلفظ بهما، إذا قيسا إلى غيرهما من الحروف المهموسة، لأنهما أحصر للهواء.
والأطفال، من غير شك، يستطيعون أداء هذه الأصوات، عدا “الكاف” و”التاء” دون كبير عناء، ولكن هناك حروفاً أخرى لا يستطيع المتلفظ بها، أن يتابع نفسه، كما لا يستطيع أن يجري صوته بها، لأن الهواء الخارج من الرئتين يتوقف عند لفظ هذه الحروف بمرتكز معين من الفم، وبغير هذا التوقف لا يتحقق ذلك الصوت، وسميت هذه الحروف عند علماء العربية بـ “الشديدة” وسماها المحدثون من دارسي الأصوات بـ “المنفجرة”.
وهذه الحروف هي ثمانية: الهمزة، والقاف، والكاف، والجيم، والطاء، والدال، والتاء والباء والباء، ويجمعها قولك: أجدت طبقك، أو قولك: أجدك قطبت.
والذين يعلمون “الألفباء” يعرفون أن هذه الحروف أصعب حروف العربية نطقاً، وأشقها على الصغار، الذين ما يزال جهاز نطقهم غضاً، بل إن بعضها صعب على الكبار أيضاً.
والذي زاد في صعوبة التلفظ بهذه الحروف، هو طريقة أكثر أخواننا من المعلمين لقد استقر في أذهان هؤلاء المعلمين، أن الصوت ينبغي نطقه خالصاً ومجرداً من أي صوت آخر، قد يتخذ سلماً إليه، أو عوناً على تحقيق نطقه.
وهذه الطريقة يسهل تطبيقها على الحروف المهموسة التي ينطلق معها النفس، ويجري بها الصوت، دون توقف أو تعثر مثل “ه ح خ س ش ص ف” وسواها من الحروف غير المهموسة مثل “ر ل ن”، ولكن تطبيقها على الحروف “الشديدة” أو الانفجارية، أمر صعب، يكلف الصغار جهداً كبيراً تنوء به أعضاء نطقهم المرهفة الغضة.
فالطفل لا يستطيع نطق “الباء” و”الجيم” و”الدال” و”الكاف” و”الطاء” من غير أن يتخذ إلى نطقها سلماً أو معبراً، وهذا السلم أو المعبر هو الهمزة على ما سأوضح.
إن طريقة هؤلاء المعلمين مجافية لطبيعة العربية من جانب، ومخالفة لما وصل إلينا عن علماء العربية بشأن نطق أمثال هذه الحروف من جانب آخر.
وكان الخليل وسيبويه وغيرهما كابن جني، لا ينطقون الحروف إلا بعد أن يأتوا بهمزة، يسهلون بها النطق على أنفسهم، والإنسان كما نعلم يميل إلى التيسير على نفسه، وإلى التقليل من الجهد العضلي الذي يبذله عند النطق، كان الخليل إذا أراد أن يحدد مرتكز الصوت أو مخرجه “فتح فاه بألف ثم أظهر الحرف نحو أ ب أ ح أ ع” وأما سيبويه فقد اصطنع الهمزة المكسورة، ولم يصرح سيبويه بهذا، ولكني استنتج ذلك مما ذكره ابن جني قال ابن جني: “وسبيلك إذا أردت اعتبار صدى الحرف أن تأتي به ساكناً لا متحركاً، لأن الحركة تقلق الحرف عن موضعه، ومستقرة، وتجتذبه إلى جهة الحرف التي هي بعضه، ثم تدخل عليه همزة الوصل مكسورة من قبله، لأن الساكن لا يمكن الابتداء به، فتقول: أك أق أج، وكذلك سائر الحروف.
والآن وبعد أن علمنا أن الخليل وسيبويه وابن جني، كانوا لا ينطقون الحروف إلا بالأستانة بهمزة وصل تسبقها، تيسيراً لعملية النطق، واقتصاداً في الجهد العضلي، فما يمنع معلمي الألفباء من أن يستعملوا هذه الطريقة في نطق الحروف الشديدة في الأقل، فيخففوا عن طلابهم الصغار، ويسهلوا عملية النطق عليهم.
إن من العسير على الصغير أن يقول: “ب، ت، ج، د، ط، ك، مخرجاً أصوات هذه الحروف فقط، وهي ساكنة، ولكن من اليسير جداً أن يلفظ هذه الحروف مع همزة وصل قبلها، فيقول: “أب، أت، أج، أد، أط، أك، وهكذا وهم يفعلون ذلك، إلا أن المعلمين يزجرونهم عنه، ويكرهونهم على أن ينطقوا هذه الأصوات ساطنة ومجردة من همزة الوصل، وفي ذلك ما فيه من أثقال على الصغار، وأعنات لهم.
وقد قال بعض من يسوغ النطق بهذه الحروف مجردة من همزة الوصل: إننا يجب أن نجعل الطفل ينطق صوت الحرف خالصاً، لا يخالطه صوت حرف آخر، ولكن هذا، كما قلت، مخالف لطبيعة العربية، ومجاف لما وصل إلينا من أئمة اللغة، وواضعي علم الصوت اللغوي.
أجل، قد نستطيع أن نلفظ الحروف المهموسة، وبعض الحروف الأخرى كحروف الذلاقة “ل ر ن ف م” بلا همزة وصل، لسهولة نطقها، ولكن لا نستطيع أن نفعل ذلك في الحروف الشديدة، وقد مر بنا أن علماء العربية كانوا ينطقون جميع الحروف مشفوعة بهمزة وصل.
بقي أن أشير إلى أن نفراً من معلمي الألفباء يعمدون إلى طريقة أخرى في نطق الحروف الشديدة “المنفجرة” خاصة، محاولين التيسير على طلابهم، فيقولون: بىء، تىء، طىء.. إلخ، غير أن هذه الطريقة خاطئة أيضاً، لأنها لم تؤثر عن علماء العربية، ولم ترد المباحث الصوتية التي تركوها لنا.
د. رحيم هادي الشمخي
أكاديمي وكاتب عراقي