“القوة الناعمة”.. الفن أداة للصراع!
لم تعد طبول الحرب تقرع في ساحات المعارك فقط، بين هدير الدبابات والطائرات وتفجيرات القنابل، من يريد شن حرب هذه الأيام عليه تجهيز ماكيناته الإعلامية، خاصة تلك الأكثر قدرةً على الجذب والإقناع والتأثير بالمشاهد، كالفن بأشكاله كافة، وخصوصاً الدراما، لما لها من قوة في إيصال الأفكار بطريقة غير مباشرة، تنغرس بالعقول، فتكون لها تبعات على الوعي الجمعي والصور المدركة لدى الأفراد والمجتمعات..
حيث لم يعد الأمر مقتصراً على الصحف والإذاعات والتلفزيونات، إذ إن مهمتها تكون التمهيد للهجوم، هو ليس هجوماً بالقوة الضاربة، بل بقوة ناعمة أكثر خطراً، تتغلغل في الوجود كما يسري مفعول السم بالجسد، وهنا يأتي الدور الإشكالي للفن، بما يحويه من تركيب أدبي يصور الحياة، ويسرد قصص الشعوب وصراعاتها وبطولاتها، فهو يحمل رؤية الأمم لتاريخها وتاريخ خصومها، ويحكيها من زاويته الخاصة، لذا لجأت إليه دول كثيرة كـ”قوة ناعمة”، استخدمتها في نزاعاتها السياسية، ويكفي الآن، لتشويه صورة شعبٍ أو شخصٍ ما، أو تلميع وتحسين صورته، استحضار خيال الكاتب والمخرج وقدراتهم السردية والتصويرية، والاستعانة بنخبة الممثلين، لإنتاج عملٍ يحمل في طياته كثيراً من الرسائل الخفية، تلبي طموحات القائمين عليه وأهدافهم..
ومع تطور الدراما، بشقيها التلفزيوني والسينمائي، ووصولها إلى كل بيت في العالم، أصبح بالإمكان التنكر للتاريخ وصناعة آخر جديد، على مقاس منتجي هذا الفن ومن يقف خلفهم، يبرئهم من مجازر ارتكبوها، ويؤنسن منظمات وكيانات عرفت بوحشيتها وانتهاكها لكل الأعراف والقوانين، ويلصق التهمة بمن يريدون، كل ما يتطلبه الأمر تغيرٌ في الحقائق وتزييفٌ بالوقائع، وخلقُ تبريرات للفظائع التي ارتُكبَت..
ربما يكون الأمر صعباً إذا ما كانت الواقعة أو الشخصية، التي يتناولها أي عمل درامي، قريبةً من أذهان الجماهير ولا تزال في وعيهم وإدراكهم، لكنه ليس مستحيلاً للتلاعب بحيثياتها، أما إذا كانت الأحداث وقعت في عهود قديمة، فإن ذلك يسير، حيث يكون تبيان دقتها يتطلب جهداً ووقتا طويلا، بالبحث والعودة إلى مراجع موثوقة، لذا يستغل صناع تلك الأعمال قلة وعي الجماهير وضعف اطلاعها على ما جرى، إذ إن أغلب الشعوب المستهدفة تستقى معلوماتها من خلال الدراما فقط، على أنها هي الحقيقة، دون أن تفرق بين الوقائع التاريخية والمعالجات الدرامية لها..
وكيف يمكننا الوثوق بعمل يخضع في أغلبه لشطحات الكاتب ورؤية المخرج، وتوجيهات الجهة المنتجة، وإضافات الممثلين على الشخصية، وهوية القائمين عليه، فكل الوقائع والشخصيات تنحرف عن مساراتها في الدراما، لخلق صورٍ تتوافق مع أجندات صانعيها، تتملك وعي المشاهد وأحاسيسه وتترسخ في وجدانه، تقوم خلفها إمبراطوريات ولوبيات وأنظمة مختلفة، تضخ أموالاً طائلة لإنتاجها في سبيل إيصال رسائلها والتجييش ضد خصومها..
لم يعد الفن بمجمله وسيلة تحمل رسائل وقيم إنسانية، بل تحول معظمه إلى أداة تُستغل لنشر اللاأخلاقيات والممارسات المغلوطة والصور المشوهة، وخطورة ذلك تكمن بأن الجماهير تذهب إليه بمحض إرادتها، وتختار منه ما يستهويها، دون أن تعي ما يقف خلفه من تسييس وكذب وافتراء..
رغد خضور