كُتّاب بلا كتابة
واحدة من أكثر الازمات التي تعاني منها الدراما المحلية، هي غياب الحكاية الجيدة –الورق-السيناريو-، وجُلّ ما نشاهده من نتاج لشركات الإنتاج بشقيها العام والخاص، تبدو المشكلة واضحة وجلية فيه، وفعلا تظهر الحكاية التي هي الأساس في صناعة أي عمل درامي جيد، تائهة، ضائعة، لا حبكة فيها، شخصياتها هزيلة، الحوار فيها أقرب إلى الثرثرة منه إلى الحوار، حتى ان العديد من تلك الأعمال، لا تحقق فيما تصنعه مفهوم “الدراما”، مستعيضين عنها بقول الحكاية مشافهة، دون فعل، دون “act”، ومن المعروف والمسلم به، أن النص الجيد، قادر على أن يجعل العمل كله جيدا، حتى لو كانت بقية العناصر ضعيفة كالإخراج مثلا، لكن أهم مخرج في العالم، لن يستطيع أن يرفع سوية نص درامي ضعيف، ووصف ضعيف هو من باب المشابهة بالقول، بل يمكن وبكل راحة بال أن نسميه “لا حكاية”، “لا دراما”، فما نشاهده في معظم الأعمال الدرامية “مسرح-سينما-تلفزيون”، والمسلسلات بشكل خاص، اغلبها لا حكاية فيه، ولا حتى تنطبق عليها شروط فن القص، الذي لم تزل شروطه “الأرسطية” نسبة إلى “أرسطو”، الذي وضع عناصر القصة “بداية-ذروة-نهاية”، أو ما يُعرف بـ “القص الارسطي”، تتقيد فيه وبشكل صارم “الدرامات” العالمية المهيمنة، كالسينما الأمريكية، والمسلسلات اللاتينية الأشهر، الأفلام الهندية، ومن يخرج عنها تنكسر شوكته الدراميّة، كالدراما الأوربية الغائبة عن الوعي تماما، فلا يكاد يظهر لها عملا دراميا جيدا.
إلا ان القضية ليست في غياب القصة، الحكاية، السيناريو، الورق، فهي موجودة أو متوفرة كمسلسلات نشاهدها، بغض النظر عن مستواها الفني ومقولتها، بل المشكلة حقيقة هي في الغياب الحاد للكتّاب، والفراغ الكبير الذي تركه غياب “الكاتب”، الدرامي المحترف، وما تم الترويج له بالنظرية “الخزعبلية” –موت المؤلف-خلا بعض الأسماء، سواء تلك المخضرمة، أو تلك التي ظهر نتاجها الإبداعي المحترف منذ مدة ليست بالبعيدة.
الغريب هو أن “الدراما”، خصوصا في زمن الحرب، تدور في كل مكان، فوق الأرصفة، في المقاهي، في الحانات، على الجبهات المشتعلة، والشخصية “البطل” –التي جاءت البطولة الجماعية كبدعة لتقضي عليها-، موجودة أيضا في كل مكان، في الحقول، المعامل، الصحف، خلف تنور يشتعل ناره في أعالي الجبال، وسيدة تقف خلفه، لتستطيع علاج أبنها المصاب إصابة قاسية بالحرب أدت إلى إعاقته، في المدارس، في المشافي، في كل مكان، والغريب أنها ورغم وفرتها، إلا أن العديد من “كتّاب”، اليوم لا تلتقطها حساسيتهم الإبداعية، فهي وحتى إن تمّ التقاطها، تُكتب وتُعالج دراميا بطريقة فجة ومباشرة، بل ومستهلكة حدّ الاهتراء، مثل اعمال “البيئة”، التي صارت بحكم البائدة، على غرار “الكابوي”، الذي ولى زمنه، ولم يعد له جمهور، بعد ان كان شاغل الدنيا ومالئ الشاشات، وما يُصنع منها اليوم –أي اعمال البيئة- ، لا تخرج عما درجت عليه، فالشخصيات جاهزة سلفا قبل الحكاية أساسا: “حلاق، شيخ الحارة، العكيد، القبضاي، وغيرها”، ويتم نسج أي حكاية على ما هو موجود، أي أن الشخصية جاهزة، ولا يبقى إلا ان تكتب لها الحوارات والحبكة العجائبية التي تجمعها، حتى أنها ذهبت لتقديم “طبق رمضان”، ولكن مع تغيير الأجواء، وهنا تكون الشخصية البطلة هي “الكوسا محشي، الجدي بالزيت، الأباوات والمقادم، المقلوبة، وغيرها.
وكي لا يكون الكلام عموميا ودون معرفة شخصية بواقع الحال، فلقد قمتّ كناقد دراميّ، بتقييم عدة نصوص درامية تلفزيونية، ترسلها بعض الشركات المنتجة وفق نظام محترف، إلى القراء الذين يبدون رأيهم فيها ويضعون ملاحظتهم عليها، ثم يضعون لها علامة مقسمة حسب عناصر الحكاية -الحوار، والفكرة، المعالجة، والنصوص التي قمت بتقييمها، اغلبها مضروب جوهرها، الحكاية، وهذا يعني أن العناصر الأخرى، مضروبة هي أيضا بالضرورة.
إذا نحن نتحدث عن فجوة كبيرة بين مفهوم الدراما المحلية التي كانت يوما ما مهيمنة على محطات العرض الفضائية العربية، وعن دراما أيضا محلية، لكنها “شبحية”، وأخرى أيضا يمكن تسميتها بالدراما السورية، على اعتبار أن صُناعها جلهم سوريون، المخرج، فريق التصوير، الإضاءة، الصوت، المونتاج، مصمم الملابس، الممثلون السوريون “النجوم”، الذين صرنا نرى لهم أعمالا لا تليق بنجوميتهم التي حققوها تحت سماء البلاد، من خلال مسلسلات صنعتهم نجوما وبزمن قياسي، تلك الدراما السورية المهاجرة، والتي تُسمى بالـ “البان آرب”، أيضا لم تنج من سوء “القصة”، وعدم حتى صلاحيتها فنيا واجتماعيا، كالمجرم والمهرب الذي يتم تقديمه بأبهى حلة كبطل من ورق، وإلى جانبه حسناء بارعة في الجمال، باعتبارها قادمة من عوالم “الجمال”، وهذه وجودها مثل الكريستال اللامع الذي يجذب الأنظار ببهرجته، وهذه هي مهمتها في الحقيقة، فهذا ما يريده “الجمهور”، أو هكذا تم خداعه بأنه يريد، فمن غير المعقول أن الجمهور الذي تعرف على النجم “تيم حسن” على سبيل المثال لا الحصر، في “الزير سالم” بتقديمه شخصية “الجرو”، أن يُعجب بشخصية “جبل-البلطجي”، “الروبن هودي” على الطريقة اللبنانية، التي قدمها في “الهيبة”، أو في شخصية “نور” التي لعبها بأداء بارد لا روح فيه، في مسلسل لا يٌعرف له رأس من قدم مثل مسلسل “الأخوة”، فالجمهور يعرف إمكانياته الفنية العالية، والأداء المخيب الذي قدمه في المسلسل الأخير، مرده النص المشتت والحوارات الركيكة في الورق، وهكذا تسقط مقولة “الجمهور عاوز كدة”، فهذا ما يوجد أمامه، هذا ما تصنعه شركات الإنتاج لشريحة معروفة من الجمهور، وبقية الشرائح، فهذا ما يوجد أمامها لتشاهده في المواسم الدراميّة.
ما سبق ومررنا عليه بعجالة، يؤكد بأنه يوجد لدينا “كُتّاب”، ولكن بلا حكاية، والعديد منهم لم يعرف أن يستفد من منجم الشخصيات الموجودة أمام نظره وحوله، لكنه لا يدركها كشخصيات حكائية جديرة بأن تُقدم للجمهور! ضمن قصة مسكوبة بعناية ومكتوبة بدم الجبين كما يصف “لويجي برانديلو” فعل شاق، كفعل الكتابة يستسهله كثر، من مبدا “اضرب العجينة في الحيط”!
تمّام علي بركات