ديوان العرب: أحوال ووقائع
شبه مقدمة
صفات لا تُحصى وسمت الفن الأجمل في التاريخ، الشعر، فالشعر عندنا كعرب، عدى عن كونه “ديواننا”، هو بيتنا مجازياً، مسرى أرواحنا إلى حيث تهفو، من بين جٌمله الشعرية سمعنا موسيقانا الأجمل، ومن صوره التخيُلية عشنّا لحظات أبدية الرسوخ في الوعي، لا زالت الذاكرة تُدونها بكونها الأجمل؛ الشعر، أول رُسل الحب وأجملهم، الكلام المكتوب بعناية على ورقة، والغافي صدفة ربما في أحد كتبنا، فنعرف الشاعر ولا نعرف الفاعل الجميل، الشعر وردتنا، إنه ديواننا ووجداننا حيث ألفنا ما ألفناه بالشعر، إنه من مفرداتنا اليومية، صباح الخير لوحدها، مطلع قصيدة، لا بل قصيدة ولها رائحة قهوة، صُبت للتو في الفناجين، تلك التي لم يزل روميو وحبيبته جولييت، يحييان قصة غرامها الدامية على حيطانها الخزفيّة.
هذا حال الشعر بالنسبة لنا كعرب، هكذا ألفناه في جيناتنا، ومن حمله وحطّ به في أكبادنا، هي لغتنا العربية الفصحى، التي لم يُكتب ولن يُكتب في التاريخ الشعري العالمي، مثلما كُتب فيها في الشعر تحديدا، وهذا بشهادة أهم اللغويين والنقاد العالميين، ويكفي أنها بشهادة أهلها، أنها هي الأعز، لأنها لم تزل لسانهم، واللسان في الوجدان الجمعي العربي عموما، هو أداة الكلمة، حتى تلك التي تأخذ صيغة العقد المبرم “اعطيتك كلمتي”؛ هذه الضمانة المطلقة للشعر حفظتها وبَصمتّ عليها بأصابع ضميرها، حتى البيد والقرطاس والقلم، الجبال والوديان والريح، الجمال والبهاء، المجد، اللطف، المكاشفة، العشق، حتى الأنهر والينابيع، العصافير التي ترثها الكروم عاما إثر عام، لكن هذه العلاقة مع هذا النوع الأدبي العظيم، ستعاني واحدة من الأزمات الكثيرة التي عصفت به في تاريخه، لكنها اليوم مُربكة أكثر من غيرها، فهي كما يُجمع النُقاد على تسميتها بـ: “الجائحة”، وهي ما سنرجع على ذكرها بعد سيرة موجزة عن الفن الأهم في التاريخ العربي، فن الشعر.
العودة إلى الأصول
الخروج من الحقبة السوداء العثمانية، بداية القرن العشرين، تلك الحقبة المظلمة فنياً وأدبياً والتي تراجع فيها هذا الفن الأشهر والأهم عند العرب، ظهرت بوادر تعاف لهذا الأدب البديع، تمثلت في نتاج العديد من القامات الشعرية السورية والعربية ، والتي عادت بالشعر من حيث الشكل “العمود”، إلى ما كان عليه في العصر الجاهلي، فها هو “شبلي الملاط”-1875-1961، يظهر في واحدة من اقدم الموضوعات الشعرية، “الرثاء والفخر” في آن، وهو يَشعرها عموداً، الشكل السائد والأشهر في العصر المسمى ظلماَ بالجاهلي وما تلاه من مراحل حضارية، عاشها العربي في دولتيه الأموية والعباسية، مع انفتاح فكري وشعري وفلسفي وفني، أكبر في الدولة الثانية، إذ يقول في رثاء أخيه 1914 “تامر الملاط”: (يا سائلاً لمن الضريحُ ألم يقلْ/لك طيبَةٌ أن الضريح لشاعرِ؟/ أدرى رجالَ اليومَ أي مهندٍ/ في ذا الضريح وأي علم زاخرِ/ لو كان يُخَلّد حاكم أم شاعر/ بنبوغهِ كُتب الخلود لتامر)، صاحب “الوردة الذابلة”، ذهب إلى الفن العربي الطبيعي بالنسبة له وفي شكله العمودي تحديدا، محملا إياه مضامينا حداثوية، تجيء حداثويتها من حداثوية الوصف واللغة المشغول بعناية بالغة على تراكيبها وبُناها، ولا تجيء ذات قيمة من تعريب كلمة هنا أو هناك، أو من أحاجي وطلاسم، تضمنتها الكثير من قصائد الجيل الصاعد بقوة بعد فترة التحرر من الاستعمار الفرنسي، الذي تأثر تأثراً شديدا بميوله الحداثوية، فأخر جندي فرنسي تمّ طرده من البلاد عندما نالت استقلالها في السابع عشر من شهرِ أبريل/نيسان من عامِ 1946م، ومغادرة البارجة المهزومة التي صعد ذاك الجندي درجاتها ليرحل معها، لم ولن تعني بالتأكيد، أن هيمنته الثقافية التي صنعها، على حساب ثقافة البلاد الطبيعية، قد تم ترحيلها معه أيضا.
استمرت فترة النهوض الشعري بعد التحرر من المُحتل العثماني، حينها لم يكن الاحتلال الجديد، يرمي بأوراقه المُعلنة على الطاولة، وكانت نشوة البطولة بالتحرير من قبل أهل الأدب، الشعراء منهم على وجه الخصوص ، تستدعي فخرا يوازي قيمتها، وكان كما سلف أن عاد الشعراء العرب حينها إلى الشكل الشعري الأقدم و الأجمل والأمثل شعريا، بما جادت به حواسهم المرهفة، رغم الصرامة التي يمليها هذا الشكل وشروطه، لكن أولئك العباقرة، أدركوا بحسهم الفني السليم، أن قصيدة العمود، هي واحدة من ركائز الحياة الاجتماعية عند العرب، وهي أيضا من ركائز القوة عندهم، أمر سيؤكده أحد أهم الشعراء السوريين “الحداثويين” وأكثرهم ميلا للخروج جافاً من بحور الفراهيدي “نزار قباني”-1923-1998- في قصيدته البديعة “ترصيع بالذهب على سيف دمشقي” 1973، التي ذهب فيها مذهبا شعريا مُبهرا شكلا ومضمونا، قصيدة عمودية لبستها دمشق معشوقة نزار، فظهرت بها بأجمل حلة، ووصفها النقاد بأنها أزاحت كل القصائد التي قيلت في دمشق وما أكثرها؛ نزار قباني يُدرك بحسه الشعري الصحيح، أن مناسبة القصيدة وموضوعها، هي من أكثر المواضيع استخداما في الشعر العربي على مرّ العصور، “الفخر”، الفخر بالنصر، أي أنه “كليشيه”، وكان سحره، في جعل الموضوعة “الكليشيه” واحدة من أجمل القصائد، حتى يظن من يقرأها أنه يقرأ قصيدة كُتبت منذ أكثر من 1400 عام! لقد تغزل في بدايتها ووقف على الأطلال – الغزل والوقوف على الأطلال، ربما كانا من الشروط الأساسية التي يجب أن تٌفتتح بها القصيدة، كما فعل جده “امرؤ القيس”-501-540-قبله بأكثر من 1500 عام-، لكن الخروج من تحت احتلال مضى، واحتلال آخر قام، لم يكن بهذه البساطة، فواحدة من ركائز القوة العربية الكامنة في فنها الأوحد والأكمل، ستتعرض لاهتزاز عنيف جدا، سيقوم بتعليقها على جدران “الكلاسيكية” كإدانة، وليس كصفة لمرحلة فنية.
خروج المستعمر وبقاء أدبه
الاستعمار الجديد حينها، جلب ثقافته معه كما يفعل عادة أي استعمار، إن كان بفرض لغته كلغة من لغات البلاد الرسمية التي يحتلها، ليس فقط في الدوائر الرسمية، والمعاملات والأوراق الثبوتية، ولا في الهوية أو الانتماء، فهذه لغة “كليشات” في الوعي الاستعماري، ما يعنيه أن يكون الفن بأنواعه -لمعرفته الخطيرة بدوره – يجب أن يأتي من ثقافته هو، من فكره، من حيث نشأ وترعرع فكريا و جغرافيا، ومعظمنا يعلم علاقة الجغرافية وتأثيرها بالوعي العام، ما يعني بالضرورة، أن فنا خطيرا كفن الشعر العربي سيكون أمام منعطف حاد، خلفيته سياسية استعمارية قولا واحدا، وظاهره مزركش، لتجيء مرحلة ازدهار لقصيدة النثر، رغم الاختلاف الكبير الذي نشب بسببها في فهم الشعر عموما، تلك المرحلة اكتظت بالترجمات الكثيرة لنتاج أهم الأسماء الشعرية والفلسفية واللغوية الفرنسية بشكل خاص، وحدث “التلاقح” الثقافي، والذي من الطبيعي أن يحدث في ظروف مماثلة، لكن المستعمر الجديد، يعرف أن أهل الأدب والفن العتاة، سيعيقون مشروعه، لذا تم الاشتغال على ضرب هذا الفن، مبدئيا في شكله ولاحقا في مضمونه، فهذا الاحتكاك الثقافي الذي تصنعه الحياة في ظروف مماثلة كما اسلفنا، يُظهر الهوة الثقافية الواسعة التي عاشت قلقا وجوديا، كُسرت بحجته كل الشروط والقواعد للفن العربي الأقوى “الشعر”، وبشكله الأقوى والأكثر رسوخا في الوجدان الجمعي لأهل “الضاد”، “العمود”.
توسعت دائرة الترجمة للأدب الفرنسي وفلسفته التي كانت في معظمها ذاك الوقت، تُعلي من شأن المذهب الوجودي-العدمي-وما جادت به قريحة فيلسوفها الأهم “جان بول سارتر”-1805-1980، في مختلف نتاجه الفلسفي والأدبي، خصوصا في “الغثيان -1838-فالتلميذ النجيب لصاحب “موت الإله” فريدريش نيتشه“-1844-1900، جاء كسفينة إنقاذ للعديد من “الكُتّاب، المفكرين، الشعراء” في المنطقة العربية، -دمشق-بيروت، بشكل خاص، وجاءت التسمية لوحدها “الوجودية، الغثيان، العدمية”، كصاعقة فوق رؤوس “الشعراء” الشباب حينها، ستينيات القرن الماضي، وصارت مفردات من قبيل “العبث، العدمية، الغثيان” من أهم ملامح تلك الفترة، التي أعلنت عن ثورتها العارمة على الشكل الشعري العربي، وظهرت حينها العديد من المقالات والكتب والقصائد، التي انكبت على الفلسفة الجديدة، تنهل من غثيانها، لتصبها في نتاجها الأدبي عموما، والشعري منها بشكل خاص، لكن ظهور مجلة “شعر” التي أصدرها الشاعر السوري “يوسف الخال”-1916-1987- ومجموعة من الشعراء معه، منهم الشاعر السوري الكبير “أدونيس”، -وهي مجلة فصلية، صدرت بين العام 1957 والعام 1964، توقفت لفترة ثم استأنفت الظهور في أول 1967 قبل أن تتوقف نهائيا بعد 3 سنوات، عام 1970- كان لها كبير الأثر في تكريس القصيدة التي اُصطلح على تسميتها بقصيدة “النثر” وهي قطعة نثر، غير موزونة، تأتي القافية فيها في مناطق مختلفة من الأبيات وأحياناً تكون غير دون قافية، تحمل ما تحمل من صور ومعان شاعرية وأغلبها تكون ذات موضوع واحد، أما معناها عند “سوزان برنار”-1932-2007، وهي ناقدة فرنسية، تُعدّ رائدة صياغة مصطلح “قصيدة النثر”، وكانت أطروحتها “قصيدة النثر من بودلير حتى أيامنا هذه”، هي أحد أهم المراجع التي اتكأ عليها شعراء مجلة “شعر”، للخوض فيها فيما يشبه الترويج أو “شرعنة” تلك القصيدة، والتي ستكون من اعتى الأسلحة التي رُفعت في وجه قصيدة العمود، والقصيدة أو “النثرة” كما يصفها الشاعر “سعيد عقل”، هي كما تصفها “برنار” في كتابها، بأنها: ” قطعة نثر موجزة بما فيه الكفاية، موحّدة، مضغوطة، كقطعة من بلّور، خَلق حرّ، ليس له من ضرورة غير رغبة المؤلف في البناء خارجاً عن كلّ تحديد، وشيء مضطرب، إيحاءاته لا نهائية”.
شعراء المرحلة وسوزان برنار
طارت أقلام “الشعراء” عندنا وطار صواب حبرها بعد قراءة كتاب “سوزان”، واعتمدت معظم تعاريفهم أو مفهومهم لهذه القصيدة، على ما كتبتهُ في أطروحتها أنفة الذكر، حينها افردت مجلة “شعر” الكثير من الترجمات الشعرية للعديد من أهم الشعراء العالميين، ليس بداية بـ “الدادئيين”، مرورا بالـ “السورياليين”، و”الوجوديين” وغيرهم، وليس انتهاء بـشعراء الغرب عموما في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي.
هذه الهرولة السريعة وما تمت كتابته من مقالات تُمجد وتشرعن قصيدة النثر، بعد الهجوم الذي شنه العديد من الأدباء والنقاد عليها، باعتبارها ليست قصيدة أساسا، لكن الدعم الإعلامي الأقوى، والمنابر الإعلامية الأهم، قدمت خدماتها في أكبر عملية تغيير لواحد من أخطر الفنون في العالم وعند العرب بشكل خاص، ولتوصف قصيدة العمود بالكثير من الصفات السلبية التي ألحقت بها ضررا بالغا في عقول الناشئة، بقصد ضرب مرتكزها وبنيتها، اقلها أن موضوعاتها “كليشيه”، وشكلها يُجمد الزمن الشعري ويحدّ من جموح الشاعر!، فالقصيدة استرسال إلى ما لانهاية في سيلان الحبر.
سطع نجم العديد من شعراء قصيدة النثر تلك الفترة منهم “أدونيس”، “أنسي الحاج”، “يوسف الخال”، “محمد الماغوط”، وغيرهم، وليعلن الشاعر السوري “منذر مصري”، أن كل شعراء قصيدة النثر، خرجوا من معطف “الماغوط”، مُعتبرا إياه بما قدمه في نتاجه الشعري، الرائد الفعلي لهذه القصيدة، تلك التي تذهب نحو اليومي والهامشي، والتي تدعو لأن ينزل الشعراء من أبراجهم العاجية، ليعيشوا حرارة الشعر بين الناس وفي كل مكان.
ضربات على جذع العمود
تمرّ الأيام وتصدر الكثير من المجموعات الشعرية الجديدة حينها بشكلها ومضمونها، وليصبح الشاعر هو المحور الأهم، وليس نتاجه، فالطلاسم كما يقول محمد الماغوط عن شعر أدونيس، هي ما تمت تسميتها حينها حسب النقاد، الذين لم يجدوا في قصيدة “النثر”، أنها قصيدة كما هي العادة والشروط الفنية للقصيدة العربية لا تمت لها بصلة، تلك المجموعات الشعرية التي صدرت حينها، تمت كتابتها تحت تأثير بالغ بالمٌنتج الثقافي الغربي، الفلسفي بشكل خاص، وصار التنظير الإعلامي لها غير مسبوق لفن أدبي، فلطالما كان الفن هو المروج لنفسه، خصوصا الشعر، ولسوف تصمد ألوف القصائد العربية عبر مئات من السنين، في وجه معظم حركات تغييرها، التي لا بد ستحصل بعد ما تم الاشتغال عليه لتغير اللغة نفسها، ك “التتريك” مثلا، لكنها ستصاب وبقوة بعد بداية اندلاع شرارة قصيدة النثر، وانتشارها كالنار في الهشيم، خصوصا وأنها بلا قواعد ناظمة، حتى اللغة صار يتم تجاوز صحتها لغويا ونحويا، إنه الزمن الجديد، والقفزة النوعية التالية ستأتي لخلط الحابل بالنابل، وما كان عصيا ظهوره في الأمس القريب إلا لمن يُراد لهم الظهور، صار بعد ذلك الأمر، مباحا ومستباحا بما للكلمة من معنى.
الجائحة
في السنوات الأولى من بداية الألفية الثالثة، سيحل السيد “فيس بوك”، ضيفا مبجلا وله من ثقل الحضور ما له في المجتمع العربي، الذي لم يساهم في صناعته، بل ساهم وبوفرة منقطعة النظير في استهلاكه، ورويدا رويدا سوف يصبح “الفيس بوك”، بمثابة احتلال تقني لا يُشق له غبار، والمجانية التي قدم نفسه بها لمستخدميه، ليست مجانية كما هو الظن، وهذا مبحث آخر، لكن “مجانيته” ليست إلا من مفردات خطة وضعت له، بعد أن أصبح المليارات من الناس، يملكون منبرهم الخاص –صفحتهم الشخصية-على الموقع الأزرق، هنا تجيء الجائحة التي ذكرناها مطلع المقال، فاليوم بات لدينا مئات ألوف “الشعراء” ولكن بلا نتاج شعري يُذكر.
ما يشبه الخاتمة
واحدة من أخطر الظواهر والتي سيكون أثرها مدويا على قصيدة العمود الصامدة، هو ارتباط تلك التقنية الإلكترونية العالمية، بالحياة اليومية للشخص أين كان، في العمل، في سهرة عائلية أو غيرها، حتى في البيت، غرفة الجلوس، غرفة النوم، الحمام، وغيرها، حتى الحديث بين أهل البيت الواحد، سيصبح عن طريق خدمة الرسائل التي يوفرها الفيس، وهذه الفردية الاجتماعية، ستكون بمثابة إلهام شعري يوصف معظمه ب “الغرائبي”، ولسوف يصبح (الشعراء) ألوفا مؤلفة، كل يكتب على هواه، عدا عن عمليات القص واللصق تلك التي باتت واحدة من علامات (قصيدة) الفيس بوك “النثرية” بشكل خاص؛ فالبوح الشعري لم يعد يقتصر على محاولات خجولة هنا وهناك، بل صار منتشرا أيما انتشار، والشعراء صاروا هم الكثرة، بينما انخفض عدد القراء، حتى صار كل شاعر “فيسبوكي”، هو قارئ نفسه، ولا مانع من الاطلاع على النتاج الشعري لرفاق الكلمة “الفيسبوكية” بين الحين والآخر، وليجيء معظم ما تمت كتابته على تلك الصفحات على اختلاف أمزجة أصحابها، متشابها، لا بُعدا في مراميه، ركيك الأسلوب، يكسر القواعد اللغوية والشروط الفنية بقصد ودونه، ولتلقى العديد من تلك الهرطقات، خصوصا النسائية، العديد من الرجال المتحمسين لقصيدة “همس القمر” –اسم الشاعرة- أو لقصيدة “نجمة الصبح”، وغيرها، وهذا الحماس سينتج عنه نشر مجموعات تحمل صفة “الشعرية” بالاسم فقط، ولتتوالى تلك العملية حسب العلاقات الشخصية والمنفعة المادية وغيرها من المبررات الضمنية، لنفهم أيضا ضمنيا معنى أن يوجد ألوف “الدواوين” الشعرية، تلك التي لا يقرأها حتى صاحبها بعد نشرها، فما يريده أو تريده تحقق، وهو الحصول على لقب الشاعر أو الشاعرة، وكأنها ضرورة موجبة في “c.v” الإبداع، تليها مقابلات على صفحات مواقع إلكترونية، مصداقيتها الأدبية ليس مشكوكا فيها فقط، بل إنها أساسا لا تعرف عن هذا الأدب إلا ما رحم ربي، ولتتصدر العديد من المنابر الشعرية، أصواتا نشازا في الشعر المنفلت من أي شرط فني، اللهم ما عدا صف الكلام.
اليوم القصيدة العربية لم تعد تواجه حروب فنون أخرى، بل إنها تحارب بعضها، تأكل من لحمها، وتنهش في العمود الفقري الأرفع للأدب العربي، وهذا بات واقع حال لا يُنذر إلا بمزيد من الفوضى الشعرية تلك، المنفلتة من كل عقال، عدا عن بضعة أصوات تُحلق منفردة، وربما وتحت ضغط كل ما سبق من سوء، ستفضل السكوت والانكفاء، حتى تنتهي تلك الجائحة التي لم تزل فتية كقنبلة انشطارية انطلقت عملياتها التفاعلية الخطرة، أما صوت دوي انفجارها، فلربما اعتدناه حتى لم نعد نُفرق بينه وبين دوي قذائف الحروب.
تمّام علي بركات