“كوابيس بيروت”.. رسائل الأمس المخبّأة
هل يمتلك الأدب القدرة على مواجهة كوابيس هذا الزمن، وفي حال حصلت المواجهة؛ كيف يستطيع سلاح الكلمة أن يقوم بمهمته التي لاتقل دوراً وتأثيراً عن أي دور آخر، كيف تجسّد الكلمة رسالتها التي لا تقتصر على نقل الواقع ومحاكاته فحسب، بل تتعدى ذلك، لتصل لاستشراف المستقبل والتنبؤ بأحداثه ورفع أقصى درجات التأهب لمخاطره، ربما حاول الأدباء مواجهة كوابيس الحروب، كلٌّ بطريقته وبإيقاعه الخاص، إلا أن القلّة هم الذين نقلوا الحقيقة وتركوا الأثر، واستطاعت كلمتهم أن تقوم بالمهمة كما ينبغي لها أن تكون..
وأمام الكوابيس الثّقيلة التي يعيشها لبنان اليوم، والتي تنذر بخطورة المرحلة، وتعود بالزمن وبالذاكرة إلى ما يزيد عن أربعين سنة مضت، حيث الحرب الأهلية القاسية التي خلّفت وراءها مآسي لم تُمحَ آثارها إلى اليوم، وكوابيس ما زال الخوف من تكرارها يتلبّس من عاشها ومن لم يعشها، أمام هذا الواقع، يبرز تأثير الكلمة قوياً، مستذكراً الآلام، مستصرخاً النفوس، آخذاً على عاتقه مهمة إنارة البصيرة وتدارك الفاجعة قبل وقوعها، وهذا لا يكون إلا بأدب يتسامى بدوره لينهض بالواقع، ولا يمتلك ذلك إلا من عايش المأساة واستطاع تجسيدها، وهنا يأتي دور الرواية بما تشكله من مدوّنة سرديّة لها كل الأثر، تؤرّخ للمرحلة وتوثّق الحدث، وتبحث في الآفاق عن خلاص محتمل.
هي “كوابيس بيروت”، للروائية السورية غادة السمان؛ الرواية التي أرّخت لمرحلة عصيبة في لبنان، وجسدت تفاصيل الحرب بأدق جزئياتها، وعلى الرغم من مرور عقود على كتابتها إلا أن من يقرؤها الآن، وفي أي وقت، يشعر أنه أمام الحدث مباشرة، وكأنه يحصل أمامه للتو، هنا تبرز مقدرة الأديبة باستحضار الحالة الشعورية المؤلمة وإسقاطها على واقع اليوم ومحاولة تجنبها، خاصة أننا في بلاد قُدّر لها أن تعيش الحرب وتعاني ويلاتها، وإن كانت يوميات الكاتبة في حرب بيروت تشكّل واقعاً مؤلماً حينها، إلا أنها تشكل أيضاً وقفة مبصرة للواقع الحالي ومحاولة لتفادي عواقبه وما يمكن توقّعه من مآسٍ.
تحكي الكاتبة في روايتها حكايات الحرب، بل كوابيسها التي عاشتها حقيقة في بيروت، كابوس الحبيب الذي قُتل أمام عينيها، السجن مع أخيها في بيتها دون القدرة على الخروج منه مخافة القنص، كوابيس المعارك التي تجتاح الشوارع وتخلّف المزيد من الموت، القذائف التي تمطر الأحياء، المسلحون الذين يملؤون المكان، احتراق مكتبتها وقلبها أمامها، العيش في صراع مع العتمة والجوع والخوف والحصار الطويل، والمزيد من الأحداث التي تتوالد من رحم الماسأة، كل ذلك عبر مشهدية تفصيلية تجعل القارئ ينسرق من واقعه ليعيش واقعها، ويخبّئ سِلمه ليعيش حربها، ليكتشف، في الوقت ذاته، كمّ الصدق والعمق الذي بثته الكاتبة من روحها قبل قلمها ونقلته إليه عبر سطورها..
استطاعت “غادة” تجسيد معاناتها بقدرة أدبية عالية ولغة متمكنة، وتصوير حقيقي واقعي لما كابدته، وذلك من خلال قدرتها الفائقة على الغوص في عمق الواقع ووصف الشعور وتعرية النفس البشرية وسبرها بدقة، والتعبير عنها بصدق من خلال الكوابيس التي قاربت ٢٠٠ كابوس، والتي شكلت رواية واحدة، حاولت خلالها الراوئية الخروج عن الإطار التقليدي في شكل الرواية من خلال يوميات الحرب التي عاشتها، قد تكون الطريقة التي نشرت فيها هذه الكوابيس، والتي أتت على شكل مقالات في إحدى المجلات، هي السبب، لتتوقف عن النشر فيها لاحقاً، وتنهي كتابة ما تبقى من هذه الكوابيس وتجمعها على شكل رواية.
حين ينتهي القارئ من الرواية يشعر وكأنه يخرج من حرب حقيقية، ليست على الورق؛ ولّدت لديه من الرعب والخوف ما يكفي ليشعره بقسوتها وآلامها، هذا في حال أنه لم يكن قد عاش الحرب، أما من عاشها فهو يدرك ما تريده الكاتبة، كما يعي تماماً كل إحساس ألم عاشته، وكل نبضة خوف كانت تشعر بها.
أهمية العودة إلى هذه الرواية تأتي في الوقت الذي ينبغي فيه أن تتعلم الشعوب من تاريخها، وأن تكون التجارب المرّة كفيلة بتعلّم الدرس الذي آن له أن يُكرّس ويكوّن الرادع لعدم تجرّع مرارتها مجدداً، خاصة إذا كانت هذه التجارب أليمة بما يكفي لتجتاح المخيلة بكوابيس تشبّعت خوفاً ودماً، كوابيس، تحولت، وقد تتحول، في أي لحظة، لواقع لا يطاق.
هديل فيزو