مصير الاتّفاق النووي
ليس مستغرباً الموقف الأخير لدول الترويكا الأوروبية من الاتفاق النووي، فهو خطوة تضاف لما سبقها في طريق طويل من سياسات العجز وعدم القدرة على الوفاء بالالتزامات تجاه إيران والشرق الأوسط عموماً، وإن كانت طهران حاولت، خلال أربع سنوات، التمسك بالاتفاق النووي بشتّى التفاهمات والمبادرات، إلا أن مؤشرات نهايته كانت واضحة منذ البداية، وتأتي التصريحات والمواقف والأفعال المعلنة والخفية والمتتالية لهذه الدول لتؤكد الأمر.
بداية نهاية الاتفاق كانت وقت إعلان ولادته مع الدول الضّامنة له، وذلك لعدم امتلاكها القدرة على ضمان بقائه، ومساهمتها بشكل أو بآخر بانهياره تدريجياً، ولم يتوقف الأمر عند الانسحاب الأمريكي منه، بل تبعته زيادة الضغوطات على إيران من خلال حصار اقتصادي خانق وفرض أقسى العقوبات، ثم الفشل المتكرر للدول الضامنة في صياغة موقف قوي موحد ضد واشنطن، أمّا “الإنستكس” التي أثبتت عدم جدواها، فلم تكن إلا نوعاً من المماطلة وكسب الوقت، والمحصلة كانت الموقف الإيراني بتنفيذ خطوات خفض الالتزام بالاتفاق النووي تباعاً.
تغيّرت قواعد الاشتباك بعد الرد الإيراني على عملية اغتيال سليماني ورفاقه في بغداد، فارتفاع حدة الصراع مع واشنطن وصولاً إلى المواجهة العسكرية، قلبَ المعادلة، حيث برهنت إيران قدرتها على الرد الحاسم والسريع، من خلال استهداف القواعد الأمريكية وأثبتت أنها تمتلك إمكانيات إلكترونية عسكرية متفوقة استطاعت تعطيل أجهزة الرادار والإنذار المبكر للقواعد الأمريكية ومنعتها من تحديد وإيقاف مسار الصواريخ، كما كشفت عملية الرد امتلاك إيران لمنظومة صاروخية قادرة على بلوغ الهدف الذي تريده من خلال الحجم والنوع والمدى، هذا ما أكده تصريح ترامب عقب الرد الإيراني، تصريحٌ حمل اعترافاً ضمنياً بتطور منظومة إيران العسكرية حين أعلن أن الاتفاق النووي سمح لطهران بتطوير صواريخها الباليستية، الأمر الذي زاد من مخاوف واشنطن وحلفائها وباتت تستشعر تهديد وجودها ومطامعها في الشرق الأوسط ما جعلها تمارس أقصى الضغوط وعلى كافة المستويات، وخاصة القوى الفاعلة في أوروبا، لتزج بها في ساحة المواجهة مع إيران.
التهديدات الأمريكية الأخيرة التي طالت فرنسا وبريطانيا وألمانيا كان لها أثرها السريع والمباشر على هذه الدول وذلك بالإذعان لمطالب واشنطن وتحقيق غايتها التي سعت لها منذ البداية، وهي تفعيل إجراءات “فض النزاع” الذي يهدد بشكل أو بآخر الاتفاق، ما يؤكد أن هناك نوايا جدية وتوافقاً خفياً من هذه الدول لوأد الاتفاق، وبالتالي العودة إلى نقطة الصفر وتصعيد التوتر في هذا الملف، وصولاً إلى انهياره بالكامل ودفعه إلى مجلس الأمن، ومن ثم الذهاب إلى اتفاق جديد تسعى إليه واشنطن منذ البداية، تريد منه اقتناص التنازلات الإيرانية، الأمر الذي تعيه طهران جيداً وترفضه في كل مرة يحاول فيها ترامب إعادة التفاوض، وفي الوقت الذي تعوّل فيه طهران على تمسكها بموقفها بعدم التنازل فهي تستند أيضاً على الموقف الروسي الصيني الداعم لها دولياً.
إيران أعلنت مؤخراً عزمها تنفيذ خطوتها الخامسة والأخيرة في إطار خفض الالتزامات النووية، مؤكدة أنه لم يعد هناك أي قيود في مجال التخصيب، لتصرّح لاحقاً أنها ستنسحب من معاهدة منع الانتشار النووي بالكامل في حال أحيل ملف إيران إلى مجلس الأمن، لترفع بذلك سقف التحدي وتضمن لنفسها توازن القوى الذي تسعى إليه في أي تفاهم قديم أو جديد مع دول الاتفاق، اتفاق تؤكد المعطيات اقتراب نهايته، وتمهد في الوقت نفسه لبداية حقبة جديدة ستكون معالمها رهن أي تصعيد قادم، أو اتفاق محتمل.
هديل فيزو