لا جديد: الصفقة قديمة.. وساقطة
من المستغرب أن يترقّب المشاهدون موعد إعلان ترامب وشريكه نتنياهو صفقة القرن الساعة السابعة مساءً أمس، وكأنه شيء جديد لا سابق لإعلانه. فقبل سنتين أعلن ترامب أن القدس عاصمة موحّدة لدولة (إسرائيل) وأقرّ نقل سفارة بلاده إليها، وقبل أربع سنوات أعلن في برنامجه الانتخابي كثيراً مما يتصل بهذه الصفقة، وبتمكين الصهيونية، والضغط بشتى أنواع الطرق على كل من يواجه مشروعها. كما أن الصفقة اليوم ووعد بلفور عام 1917 وجهان لعملة واحدة، فأي جديد؟!
لا شك في أن الإدارة الأمريكية تُقدِم اليوم على شيء جديد تخالف به قرارات المجتمع الدولي التي كانت هي جزءاً منها، ولم تعد بعد إعلان الصفقة، ولا سيما تلك الصادرة عن مجلس الأمن، وعن الجمعية العامة وبخاصة القرار 242، إلا أن سياسات المحافظين الجدد كانت ولاتزال من المتوقّع أن تفعل هذا وأكثر منه، وقد سمعنا ترامب وإدارته أمس يتوعدون الفلسطينيين ومن يناصر حقوقهم بمزيد من ألوان الضغط والتهديد من جهة، والابتزاز والإغراء بالساقط من المبالغ المالية من جهة ثانية، ومن جهة ثالثة اعتبار الصفقة فرصة أخيرة وإلّا..
نعم هذه هي سياسة المحافظين الجدد ليس تجاه القضية الفلسطينية فقط، بل تجاه قضايا العرب والمسلمين جميعاً، وتجاه حقوق أغلب شعوب الأرض، ألم يعلنوا من عقود استراتيجيتهم في الهيمنة وأحادية القطب: من ليس معنا فهو ضدنا؟!
وقد سبق المؤرخون الجدد الصهاينة، المحافظين الجدد في التمهيد الناعم والهادىء لشرعية الصهيونية بسنوات قليلة، فقدم المؤرخون الجدد سرديات متطورة جداً لتمكين المشروع الصهيوني، واستفادوا في هذا التطوير من مناخ اتفاق أوسلو، فبعد أن كان همهم الادعاء بأنهم يعملون لزعزعة المسلّمات التاريخية التي اعتمدتها الرواية الصهيونية لإنشاء كيان الاحتلال، مؤكدين أن الصهيونية جزء من نسق الحركة الاستعمارية الحديثة – وهم يرون في حرب 1948 مثلاً نوعاً من التطهير العرقي للسكان الأصليين – وذلك في ثمانينيات القرن الماضي، لكنهم بعد توقيع اتفاق أوسلو 1993 مع السلطة الفلسطينية التفتوا إلى تكريس القناعة بأن الكيان الصهيوني اكتسب نضجاً يجعله في غنى عن الأساطير التاريخية المؤسسة له، كما أن التعرّف على جذور الصراع العربي الصهيوني يسهم في التعرّف على حلول له أفضل، وبالتالي عليهم بعد أوسلو التمهيد للتسوية السلميّة.
مشروع المؤرخين الجدد رعاه حزب العمل ورابين وباراك تحديداً، فأسندا إلى اثنين من أعلامه وزارتي العدل والتعليم، وذلك تماشياً مع مشروع الحزب في الشرق أوسطية بهدف استبدال (إسرائيل الكبرى)، بـ (إسرائيل العظمى) وتلبية لمتطلبات المرحلة القادمة – يومها – لـ (شرق أوسط جديد) من الانفتاح والتطبيع بعد تبرئة اليهودية من الصهيونية، والمشروع ذاك هو مجرد حركة لإنقاذ الصهيونية من تطرفها، دون إنكار شرعيّة القومية اليهودية… وبهذا فهو جزء متطور من التزييف الحقيقي للتاريخ المعاصر.
لكن اتفاقية أوسلو وما بعدها، وما نجم عنها من: اعتراف السلطة الفلسطينية بكيان الاحتلال، ومن الحفاظ على الترتيبات الأمنية معه، ومن الخلاف مع فصائل مقاومة المشروع الصهيوني… كله دفع المؤرخين الجدد والمحافظين الجدد إلى تجديد المطامح وزيادة الأطماع على نحو ما سمعناه في إعلان أمس، والذي يتطلب أول ما يتطلب من السلطة التهديد بإلغاء الاتفاقية، والتراجع عن الاعتراف بالكيان، ووقف الترتيبات الأمنية معه ما لم يُسحب الإعلان من الطرح والتداول، وهذا قبل عقد آمالها على اللجوء إلى (الجامعة العربية؟!) والأمم المتحدة والمؤتمر الإسلامي… إلخ.
هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإن ملامح سقوط الصفقة واضحة بقوة لكن لا شك بشروط، منها:
< اتفاق كافة الفصائل الفلسطينية على وحدة القرار والتنفيذ، وعلى وحدة الصف، وإنهاء الانقسام البغيض.
< الانسحاب من أوسلو ومفرزاتها، وكذلك انسحاب الأردن ومصر من وادي عربة وكامب ديفيد، والتواصل والتعاون مع محور مقاومة المشروع الصهيوني.
< باعتبار أن الإعلان يُسقط القانون الدولي، وشرعية الأمم المتحدة، فحق الفلسطينيين اليأس من مسار السلام والتفكير ببدائل واعدة وأكثر نجاحاً في تلبية حقوقهم المشروعة.
< الإيمان بالمقاومة بشتى أشكالها نهجاً وثقافة، ليس فقط كحق مشروع، بل ضرورة وطنية وقومية تاريخية مع هكذا احتلال، وعدوان، واستيطان، وصفقة.
إن على العرب الذين اعتقدوا أنهم أصدقاء أمريكا أن يقتنعوا اليوم بأن هذه الصداقة مشروطة ومرهونة بالخضوع قسراً أو طواعية لهذه الصفقة، وهذا ما سيسقط عروشهم، والأجدى أن يقتنعوا بما مضت عليه ثوابت سورية من (إننا إذا لم نستطع تحرير الأرض المحتلة الآن، فعلينا ألّا نورث الأجيال القادمة صكوك الاستسلام)، ومن: (إن كلفة المقاومة أقل من كلفة الاستسلام).
فعلى من يؤمن بالعروبة وبالقضية المركزية، وبوجود صراع عربي صهيوني، أن يدعم دولة المواجهة الوحيدة المجاورة لكيان الاحتلال في نهجها الصامد والمقاوم، وأن يتعاون معها على الأقل في هذا السبيل وفي محاربتها التطرف والإرهاب.
والرهان قوي على سقوط الصفقة، فقد اقترح لافروف قبل ظهر أمس وقبيل إعلانها بساعات أن تناقش اللجنة الرباعية (روسيا – الاتحاد الأوروبي – الأمم المتحدة – الولايات المتحدة) مشروع صفقة القرن، وأعلنت موسكو رسمياً أن واشنطن ليست هي من يتخذ قرار التسوية في الشرق الأوسط، كما أكد السيناتور الديمقراطي كريس ميرفي أن الصفقة كذبة كبرى، وأوضح الفلسطينيون بأسى أنهم بعد رضاهم بـ 22٪ من أرض فلسطين فإن الصفقة تُبقي لهم 12٪ منها ودون سيادة.
هذا ساقط بحكم التاريخ، وليس بحكم الواقع المرير، مادام في أبناء الأمة، وأحرار العالم وشرفائه عرق ينبض بالشرف والكرامة الإنسانية.
والصفقة ليست فرصة للفلسطينيين، بل فرصة واعدة للتنبيه على ضرورة التعاضد بين الشعوب لمواجهة المشروع الصهيوأمريكي في المنطقة والعالم، وبهذا يبدو أنه بإمكاننا القول – كالمعتاد – إنها لن تساوي قيمة الحبر الذي كُتبت به.
د.عبد اللطيف عمران