هل تخرج أوروبا من عباءة واشنطن؟
أثارت تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لمجلة “ذي إيكونوميست”، التي قال فيها: إن حلف “ناتو” يعيش حالة “موت دماغي”، وإن أوروبا تقف أمام “خطر أن تختفي عن الخارطة الجيوسياسية مستقبلاً أو أقلّه ألا نعود أسياد مصيرنا”، موجة من ردود الفعل المتضاربة والقوية في أوساط دول الحلف، وذلك لأن الحديث عن جدوى هذا الحلف ظل محرّماً فترة طويلة من الزمن في ظل استفادة أوروبية مفترضة منه، بدعوى أنه أسّس أصلاً لحماية الدول الأوروبية من الأخطار الخارجية.
وقد أعاد ماكرون السبب في ذلك إلى نقض الولايات المتحدة التزاماتها تجاه حلفائها في “ناتو”، وتصرّفات تركيا العضو في الحلف، لذلك لابدّ في نظره من تعزيز القدرات الدفاعية لأوروبا “وتحديد الأهداف الاستراتيجية للناتو”، ما يشير ضمنياً إلى أنه لم يعُد يؤمن بالمادة الخامسة من معاهدة “ناتو” التي تنصّ على ضرورة “الدفاع الجماعي”.
وفي الحقيقة تصريحات ماكرون ليست غريبة، إذ سبق أن تحدّث في العام الماضي عن ضرورة تشكيل جيش أوروبي موحّد، الأمر الذي عدّته واشنطن حينئذ سعياً فرنسياً للتخلص من الهيمنة الأمريكية على قرارات الحلف، ولقي موافقة ضمنية من ألمانيا في حينه، ولكن المستشارة الألمانية آنجيلا ميركل عادت مؤخراً لتصف تصريحات ماكرون حول الحلف بـ”المبالغ فيها”.
ماكرون عاد مجدّداً ليقول: إن النظام السياسي العالمي يعاني “أزمة غير مسبوقة”، ودعا إلى إقامة تحالفات من نوع جديد، والتعاون لتسوية قضايا العالم، وذلك خلال افتتاح “منتدى باريس الثاني من أجل السلام”، غامزاً من قناة الأمم المتحدة نفسها التي باتت “مشلولة” حسب تعبيره.
ورأى ماكرون أن النظام العالمي كان مجدياً لمدة سبعين عاماً بعد الحرب العالمية الثانية، معلناً رفضه إعادة إحياء النهج الأحادي، وذلك في ظل الوعي الأوروبي المتزايد لطبيعة المهمة التي تريد واشنطن أن تزجّ بها دول الحلف الأوروبية في صراع مباشر مع الجار الروسي، خدمة للنظام الأحادي الذي تسعى الولايات المتحدة إلى الإبقاء عليه بأيّ ثمن حتى لو اندلعت حرب عالمية ثالثة مدمّرة على البر الأوروبي.
وقد تزايد في الآونة الأخيرة الحديث عن قيام دول أوروبية بخطوات عملية نحو تأسيس قيادة عمليات مشتركة قد تشكّل خطوة أولى نحو الانفصال عن الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي.
وبعد قيام المملكة المتحدة بإجراءات عملية للانفصال عن الاتحاد الأوروبي بتحريض أمريكي لم يعُد خافياً على أحد، تزايدت المخاوف الأوروبية من إمكانية أن تتخلّى واشنطن عن حلفائها الأوروبيين على أول مفترق طرق، لذلك نجد سعياً أوروبياً حثيثاً إلى بعث أوروبا من جديد لتكون مستقلة في قراراتها عن حاكم البيت الأبيض الذي تأكد مؤخراً أنه يستخدم تحالفه مع الأوروبيين مطيّة للوصول إلى مصالحه الخاصة غير عابئ بمصالح حلفائه.
ولم يخفِ ساكن البيت الأبيض الحالي دونالد ترامب ذلك طبعاً، لأنه بخلاف جميع الرؤساء الأمريكيين السابقين يمتلك من الوقاحة ما يكفي لإبراز عدم اكتراثه بمصالح الحلفاء في سبيل الوصول إلى مصالحه الشخصية.
ومع وجود عضو للحلف في الشرق هو تركيا لا يُؤمَن جانبه لجهة أنه يستخدم الحلف فقط أداة في معاركه الخاصة والحصول على مصالحه، وآخر في غرب أوروبا أعلن مؤخراً نيّته الانفصال عن الاتحاد الأوروبي الذي تشكّل دوله أغلب أعضاء الحلف، وثالث في واشنطن يعمل على إضعاف دول الحلف لإبقائها في حالة من التبعية لقراراته دون الاكتراث بأمنها القومي، واستخدام هذه الدول في صراعاته مع دول كبرى كالصين وروسيا، صار لا بدّ لدول مثل فرنسا وألمانيا أن تبحث عن منظومة جديدة تحقّق للدول الأوروبية الأمن الذي تنشده بعيداً عن استعداء الدول الكبرى في العالم، وهذا في الحقيقة هو الدافع الحقيقي الذي دفع ماكرون إلى هذه التصريحات النارية فيما يخصّ وضع الحلف والنظام العالمي بأسره.
ولكن، هل يسمح ترامب لفرنسا وألمانيا مثلاً بالخروج من عباءة الحلف التي يعتبرها أداته المثلى في الحرب غير المعلنة التي يشنّها على روسيا؟ وهل تفلح الصحوة الأوروبية المتأخرة في إنقاذ أوروبا من الجحيم الذي يقودها إليه ترامب برفع منسوب التوتر بين الحلف وجارته روسيا على الأراضي الأوروبية التي أصبحت ساحة الصراع الأولى بين الطرفين الأمريكي والروسي؟ وأخيراً هل تنتبه أوروبا إلى أن هذا الصراع إذا ما تمّ بالفعل وكانت الدول الأوروبية في واجهته فإنه سيكون القشة التي قصمت ظهر البعير والتي ستؤدّي بالمحصّلة إلى تمزيق أوروبا من جديد بشكل يتجاوز الوضع الذي كان قائماً بنتيجة الحرب العالمية الثانية بكثير؟.
الوعي الأوروبي حتى لو جاء متأخراً عمّا تخططه واشنطن لأوروبا، سيشكل مانعاً حقيقياً لدمار أوروبا من جديد، لأن الحرب لو اندلعت الآن مع روسيا ستكون ساحة الدمار الأولى فيها هي القارة الأوروبية، وذلك أن واشنطن حقيقة تحارب روسيا بالدول الأوروبية..
طلال ياسر الزعبي