فن “القصة القصيرة” والوصايا المقدسة
الكتابة ليست وصفة معروفة المقادير ومحددة المعايير، هذا شان لا يختلف عليه أي ممتهن لهذا الشأن – إلا قليلا- كما العزف و الرقص والرسم، إلا أن هذا لا يعني أن لا يكون لهذا الفن أي فن الكتابة عموما، العديد من النصائح والإرشادات، التي هي في حقيقتها خلاصة أهم ما توصل أليه شيوخ وكبار الكتاب العالميين، الذين استطاعوا أن يغيروا مجرى التاريخ بما أنجزوه، وإذا نقول العالميين فذلك لقناعة راسخة في المجتمعات المتحضرة عبر التاريخ، بأن الكاتب المبدع هو ثروة بشرية لجميع البشر، وكما العازف على آلة العود مثلا يحتاج إلى تمرين أصابعه وفق تمارين محددة ومرسومة بدقة، تفضي عند إتقانها إلى تطوير حركة الأصابع و تزيد مرونتها وقدرتها على اكتساب ذاكرة تزيد الحالة الإبداعية للعازف، -لذا هناك عازف عود مبهر بعزفه، وآخر عادي- كذلك الكتابة بأنواعها يجب ان يكون لها قواعد طبيعية تفصل على الأقل بين أجناس الكتابة المتنوعة – شعر – رواية – قصة- مقال ..ألخ.
من تلك الأنواع تجيء القصة القصيرة، هذا الفن الشاق والممتع، والذي يعتبر تقنيا واحدا من أصعب أنواع الأجناس الأدبية، ويحتاج إلى مهارات خاصة ليس من السهل على الجميع الخوض بها كما يظن البعض! حتى أن أهم الروائيين العالميين، كتبوا القصة القصيرة في بدايات اشتغالاتهم الأدبية، لكن شهرتهم لم تظهر حتى خاضوا في الرواية، ما يعني أنهم ككتاب قصة قصيرة لم يقدروا على إثارة شهية القارئ لنصوصهم، فهذا الفن الصعب قيل فيه كل شيء تقريبا وبجميع الأساليب، لذا سنجد أن من تفردوا في هذا الفن هم قلة، ففي أنواع الكتابة، يختبر الكاتب نفسه بالشعر أولا، فإن لم ينجح بذلك، يذهب نحو القصة القصيرة الأقل تكثيفا، والأكثر مرونة، وفي حال لم يلمع نجمه في القصة، فإنه ينتقل إلى كتابة الرواية، وهذا حصل مع العديد من الروائيين العاميين الكبار، مثل “دستويفسكي، هرمان هسه، فيكتور هوغو” على سبيل أمثال لا الحصر.
بالتأكيد كما في كل إبداع، تتفاوت الدرجات بين كاتب وغيره، ويصبح لكل إبداع في كل زمان ” شيخ كار”، يمكن من خلال تجربته التي فاقت الآفاق وتمت قراءتها بعدة لغات، كما قصص “تشيخوف” مثلا، أن تصبح نفسها محط دراسة وتحليل، للخروج بالعديد من القواعد المخفية التي لا يعرفها غيره في إبداعه، ومن بين الكثير من النصائح التي توضع تحت عنوان “كيف تصبح كاتبا”، لا بد من رمي العديد من الهراء الذي يجيء تحت هذا الوصف، والإبقاء على المفيد والهام، الذي يمكن اعتباره مرجعا في هذا الفن أو ذاك.
في فن القصة القصيرة بالتحديد، تكثر الكتب التي تتناول تقديم النصح لكل مبتدئ ينوي الدخول في هذا المجال، لكن كما اسلفنا، ليست كلها صالحة لأن تكون موضع ثقة، ومن بين الاستنتاجات التي خرجنا بها لدى قراءتنا لأهم الكتّاب والنقاد محليا وعربيا وعالميا، فإن عدة وصايا تكاد تكون مقدسة ويجتمع على دقتها العديد من كبار هؤلاء الكتّاب والنقاد أيضا، ومن بين الجم والكثير، ذهبنا نحو ما تم الاتفاق ضمنيا عليه في فن القصة القصيرة، و أليكم بعض النصائح المتفق عليها بين كبار الكتّاب وذلك من خلال نتاجهم الأدبي نفسه، والتي تخص هذا الفن الشاق والممتع معا.
بنية القصة وموضوعها: تتطلب بنية القصة كما يرى النقاد عبر تاريخها الطويل أن يتخلى القاص عن كل الأفكار ذات المزاج الشخصي، وإلا فلن يكترث أحد ما بما يكتب، خصوصا وأن الحامل العام لفن القصة القصيرة ومنذ القدم لم يتغير كثيراً، فالقصص حاضرة منذ أزمان غابرة، منها ما وجد مكتوبا على جدران الكهوف بالرموز أو باللغات التي تم فيما بعد فك شيفرتها، وكل القصص تحمل البنية نفسها، لذا من الطبيعي أن لا يذهب الكاتب نحو ابتكار ما هو موجود أساسا، وبما أن لكل قصة قصيرة موضوع محدد، فإن ثمة خيط خفي هو من ينظم سير الأحداث من البداية إلى النهاية، هذا الخيط الخفي الذي يجب أن يبرع فيه الكاتب، يقوم بإيصال رسالة مختبئة بين الأحداث، فمثلا قصة “روبن هود”، ليست فقط قصة عن الخارج عن القانون الذي يسرق الأغنياء ويعطي الفقراء، إنما هي تدور حول فكرة الانتقام، وصراع الطبقات، كذلك الأمر في “ذهب مع الريح” التي تبدو وكأنها رومانسية، لكنها ليست كذلك، بل هي عموما عن حب السيطرة، لذا سيكون على الكاتب أن يحدد موضوع قصته بدقة، مجيبا منذ البداية عن سؤال: ما هو موضوع القصة التي تكتبها؟ وعند الإجابة على هذا السؤال في العمل طبعا، فيجب على الكاتب أن يفكّر في العقدة، التي هي من يحدد بقية البناء للقصة كلها، ومن ثم يحاول أن يتصور الإطار العام كله في عقله، وعليه أن بكتب ملاحظات حول ذلك، ومن ثم العمل على تطور القصة بغية تحقيقها غايتها.
الصراع: إن أي قصة يجب أن تتضمن صراعاً من نوع ما، وإلا سوف تفشل، وهذا الصراع يسمى “الحبكة”، لذا من الطبيعي للكاتب أن يحدد ما هو محور الصراع أو الحبكة الذي تقوم عليه قصته، وهذا الصراع قد يكون صراعا داخليا، مثل صراع الذات والنفس، وقد يكون صراعا خارجيا، مثل الصراع مع إنسان آخر أو ضد الطبيعة، كما قرأنا في “الشيخ والبحر”، أيضا الصراع مع المجتمع والسلطة، ومؤخرا ظهر الصراع مع الآلة -قصص الخيال العلمي-.
توصيف الشخصيات: يجب على القاص أن يتأكد من توصيف الشخصيات وهذا درس لحاله، لكن من الواجب أن يضع الكاتب ما يقارب ال 50 نقطة يصفها بها، منها: كيف تكون الشخصية الرئيسة، هيئتها، تاريخها، طباعها النفسية، مظهرها ومخبرها يجب أن يكونان معروفان لدى الكاتب، وغيرها من الأمور التي يجب أن يدركها في طبيعة الشخصية البطل ذاتها.
الحوار: كما أن أي قصة لابد فيها من حوار، يجب أن يكون الحوار في القصة مقنعا، وقادرا للولوج إلى مكامن القارئ الداخلية، فالحوار هو من يحمل الأفكار، ومهما كانت الأفكار عظيمة، إن لم يكن الحوار الذي يحملها متينا، مسبوكا بقالب لغوي يخدم طبيعة القصة أياً كان نوعها، فإن سويتها وجودتها سوف تكون منخفضة، ويعتقد أيضا النقاد عبر التاريخ، أن الكاتب الذي لا يستطيع كتابة حوار مقنع، فليذهب إلى الناس، يراقبهم و يدّون ما يقولونه، يستمع إلى أدق تفاصيلهم كما لو أنه متنصت خبير، فهذه الطريقة، يمكن اعتبارها، بمثابة معلم في الحوار.
النهاية: لا بد لكل قصة من نهاية، تسير فيها الأحداث من العقدة والصراع إلى الحل، وهناك أيضا العديد من النهايات القصصية، إلا ان النهاية التراجيدية، غالبا ما كانت سائدة على عالم القصة بشكل أو بآخر، هذه النهاية لا بد أن تكون متجانسة والموضوع، منطقية، ويمكن لها أن تكون رمزية، تاركة للقارئ هو أن يحدد ماهيتها.
بالتأكيد ظهرت العديد من التقنيات التي واكبت فن القصة القصيرة، إلا ان أهم ما ورد في عالم القصة ومنذ بداية وجودها، تم تلخيصه فيما سبق وإن كان بشكل مختصر، وهو بمثابة محرض لمن يريد الخوض في الموضوع، خصوصا وأننا اليوم أمام وجود قصة لا قصة فيها!
تمّام علي بركات