الفقاعات الصوتية الآتية من الشمال
لا شك في أن الأحداث التاريخية الكبرى، والانتصارات العظيمة، تُلهم الشعوب سرديات وملاحم ونصوصاً وأدبيات كبرى أيضاً، فتكون السرديّة صنوَ المعركة في مقاومة عوادي الزمن، ويسير الطرفان سوية في مضمار الخلود، ذاكرة “ثرّة” شعبياً ووطنياً وقومياً. وبهذا تغتني أسفار التاريخ والآداب، ويحقق الكلام “النص” وظيفته الجماليّة والمعرفيّة في آن واحد، ومن هذا القبيل تندمج ذاكرة الشعوب بالملاحم والسِّير والبطولات.
تاريخ حلب القديم والمعاصر أسطورة صمود، وكبرياء، وعنفوان، وانتصار أيضاً، وكُتُب التاريخ تحفل وتحتفل بذلك، وكذلك كُتُب الآداب شعراً ونثراً، فمن منّا ينسى شعر المتنبي في مدح سيف الدولة البطل العربي التغلبي الحلبي، أمير حلب الذي حمى الثغور الشمالية للدولة العربية الإسلامية في القرن الرابع الهجري، ودوّخ الروم: حلب قصدنا وأنتِ السبيل، وقوله: وسوى الروم خلف ظهرك روم…، وكذلك شعر أمير منبج وفارسها، أبو فراس الحمداني، في حلب: أسير عنها وقلبي في المُقام بها…..
واليوم اجترح السوريون بتلاحم شعبهم وجيشهم خلف القائد العربي بشار الأسد ملحمة صمود فيها: “انتصرنا جميعاً على الخوف الذي (حاولوا) زرعه في قلوبنا، وعلى الأوهام التي (حاولوا) غرسها في عقولنا، انتصرنا على التفكّك، على الحقد، على الخيانة”.
لقد اقترنت ملحمة الصمود بنص أدبي رفيع، غني بمعانيه، وبدوالِّ مفرداته، وباتساع حقوله الدلالية، عامر بالوطنية، وبالظاهرة التاريخانية (استلهام مركزية التاريخ)، اقتران نصٍّ بنصرٍ تقدّم بهما السيد الرئيس بشار الأسد ليس إلى الحلبيين أهلنا الأكارم فقط، بل إلى السوريين، وإلى العرب، بل إلى العالم أيضاً، حيث كانت حلب ولا تزال وستبقى قصة ثلاثية الأبعاد: رهان – صمود – انتصار. فكانت كلمة سيادته رسالة إلى كل من راهن على غنى حلب ومركزيّتها بأهلها وبتاريخها وبجغرافيتها، فكان الصمود، وكان الانتصار اللذان أنجزهما هؤلاء الكبار الذين توجه إليهم السيد الرئيس برفيع الخطاب، والمواكب في رفعته الشعورية والوجدانية والبلاغية والإبلاغية لأهل التضحيات، فقال: (إننا إذ ننحني إجلالاً أمام عظمة شهدائنا وجرحانا، فمن واجبنا أن نقف احتراماً أمام عظمة عائلاتهم الجبارة: فتحيّة لهم على من ربّوا، وتحيّة لأبنائهم على ما قدّموا).
في هذه الحال، يتمنّى القارىء والكاتب مواصلة سرد عبارات الخطاب (النص) الذي توجه به سيادة الرئيس في كلمته المتلفزة بمناسبة معارك التحرير الأخيرة في حلب وريف إدلب مساء 17/2/2020، نظراً إلى طبيعته البلاغيّة من جهة، وإلى وظيفته الإبلاغيّة من جهة ثانية، تلك الطبيعة وتلك الوظيفة اللتان تدخلانه في الظاهرة التاريخية الناجمة عن الحدث الكبير.
وفي هذا المقام، فإن (الحال) ببعدها الصوفي، والوطني والإنساني استبدّت بجلالها وجمالها، وبشرفها أيضاً بنص السيد الرئيس فترفّع عن ذكر شرور أردوغان، وما يبعثه ذلك من ألم، وأذيّة، وغدر، وخيانة، ولصوصية في ذاكرة السوريين وشعوب المنطقة، فقال بلغة الكبار بالنصر والإباء والتضحيات، وبتهذيب شديد هو بمثابة صفعة القيم والأخلاق والكبرياء لوجه أردوغان ونظامه: (معركة التحرير مستمرة بغض النظر عن الفقاعات الصوتية الفارغة الآتية من الشمال).
هذا القول الأخير الهادىء والمفارق لغطرسة أردوغان اهتمّت به وسائل الإعلام، وتناقلته، وتوقّف (أصحاب الذوق) مليّاً عند مصادره الرفيعة، ورؤوا أن أردوغان لا يستحقه، وهو فرصة وهديّة لكن لمن يذوق ويرعوي ويعقل.
اليوم، الحلبيون والسوريون جميعاً، وأحرار العالم وشرفاؤه، وبالأخص الأشقاء والحلفاء والأصدقاء، هم على يقين بأن الرفعة والترفّع صِنوان لِـ: (علينا أن نحضّر لما هو قادم من المعارك.. وسنخوض المعركة الأكبر.. وبإرادة السوريين سنبني سورية، وسنتابع التحرير بإذن الله).
د.عبد اللطيف عمران