العراقيون اكتشفوا الحرية
تثبت نصوص سومرية وبابلية اكتشفها علماء الآثار مؤخراً أن العراقيين القدماء سبقوا سواهم من البشر في ابتكار وبلورة مفاهيم دقيقة في الفكر السياسي أهمها مفهوم (أما- آر- جي) أو (ama- ar- gi) ويكتب أيضاً ويعني الحرية بالمعنى السياسي الحديث، وكذلك استعادة الحرية أو الانعتاق بالنسبة لأسرى العبودية والحروب كما تعني رفع العقوبات الجسدية والمادية والمعنوية واستعادة الحقوق والممتلكات بالنسبة لسجناء الرأي وغيرهم، ويبدو أن أول استخدام معروف لهذه الكلمة كمصطلح قانوني كان في إصلاحات الملك أوروكاجينا من سلالة ملوك أور الثالثة.
ويشير علماء الآثار أيضاً إلى أن العراقيين القدماء كانوا يستخدمون بشكل خاص لفظتين مختلفتين للدلالة على مفهومي العدالة والحق وهما (كيتو) و(ميشارو)، الأولى تعني النزاهة في الحكم والالتزام بالقانون أو الثبات عليه، فيما تعني الثانية التمسك بالاستقامة والصواب (النظام الحق) وكل شيء حسب طبيعته وفي مجاله، وتتضمن فكرتهم في هذا الشأن الفصل بوضوح على مبدأ الحق الخاص لكل مواطن بموازاة أو مقابل الحق العام لكل المجتمع العادل في تأكيد على أن الحياة عامة وليست فردية في المجتمع، أي في إطار القانون الوضعي، وفي هذا السياق من المؤكد، إن الفكر السياسي في العراق القديم كان قد جعل من واجب السلطة السياسية (الدولة) توفير العدالة الاجتماعية النفسية والمادية لكل أفراد المجتمع دون استثناء في إطار القيم السائدة في لحظة تاريخية أو أخرى.
وللأهمية التاريخية والمعاصرة للمصطلح السومري البابلي عن مفهوم الحرية ومضامينه الإنسانية العميقة والشاملة، ذهب عدد من المؤسسات والأكاديميات العالمية المعاصرة المعنية بالدفاع عن الحرية ورفض الاستعباد في العالم إلى اعتماد صورة كتابته المسمارية الأصلية السومرية نفسها شعاراً لها لرمزيته الكونية كأول وأقدم ظهور مكتوب لكلمة الحرية في التاريخ البشري من بينها المعهد السياسي للحريات في البيرو، وكلية الاقتصاد الجديد في جامعة جورجيا الأمريكية.
ومؤسسة الحرية في ولاية أنديانا الأمريكية، كما كانت كلية الاقتصاد في جامعة لندن قد اتخذته اسماً وشعاراً لمجلتها في وقت سابق وغيرها العديد من الهيئات والمؤسسات.
ومن الكتابات السياسية البابلية المكتشفة مؤخراً، لوح على قدر كبير من الأهمية والقدم في موضوع نظم الحكم، عثر عليه في مكتبة الملك آشوريا نيبال الشهير في نينوى (القرن السابع ق.م) ويرجع تأريخ تدوينه إلى العهد الآشوري الأخير، نص على نصائح صارمة موجهة إلى الحاكم بلزوم تطبيق العدل في إدارة البلاد، وضعت لحماية حقوق المواطنين في بعض المدن البابلية وبوجه خاص سيبار ونفر وبابل إزاء السياسات الاعتباطية ضدهم ومنها فرض عمل السخرة الإجباري عليهم وسلب أموالهم.
أما الملك المقصود بذلك التحذير فيرجح المؤرخ الراحل طه باقر في “مقدمة في تاريخ الأدب في العراق القديم” (ص160)، أن يكون ملك بابل مردوخ بلادان (مردوخ –ابلا- أدنا) المعاصر للملك سرجون الآشوري الثاني (721- 705)، فيما ارتأى باحثون آخرون أن يكون الملك الآشوري سنحاريب (704- 681 ق.م) هو المقصود بالنصح ومهما يكن الأمر فإن الأدلة الداخلية، من شكل الخط والأسلوب اللغوي، تشير إلى أن زمن النص يرقى إلى ما بين (1000و 700 ق.م) وأبرز ما جاء فيه من مفاهيم ما يلي: “إذا لم يعبأ الملك بإقامة العدل، ستعم الفوضى شعبه وتخرب بلاده، وإذا لم يعمل على نشر العدل في مملكته فإن الإله العظيم سيد المصائر والأقدار “إيا” سيبدل مصيره، ولن يكف عن ملاحقته وإذا لم يستمع إلى نصح أمراء البلاد فستكون حياته قصيرة، وإذا لم يأخذ بنصح مستشاريه فستثور عليه بلاده، وإذا أطاع الأشرار سيغير مصائر بلاده.
لم يقتصر العدل على الأفراد فقط بل أصبح ينظر إلى العلاقات الدولية من النوع المعروف حالياً بالقانون الدولي على أنها أسلوب للتعامل أمرت به الآلهة، وهو فهم للعدالة يمثل الجزء الأعظم في الخطاب السياسي الذي اتسم به العصر البابلي القديم (2004- 1595 ق.م) وخصوصاً فترة الملك حمورابي (1792- 1750 ق.م) لاحتواء الخطاب شمولية في فهم العدالة وتطبيقها على الكون، والتي تمثلت بالعلاقات مع الدول الأخرى.
بيد أن المعضلة الكبرى اليوم هي أن العرب في أوطانهم نسوا كما يبدو كي لا نقول تخلوا، نفس ذلك المبدأ الذي وضعوه قبل غيرهم بلزوم إعمام العدل على المستوى الدولي فضلاً عن الاهتمام به داخلياً أي لزوم إعلاء حق كل مواطن بالحرية والمساواة والعدالة أمام قانون يحمي الجميع في مجتمع متضامن وسيد نفسه وكريم مع كل ما يقتضيه تحقيق هذا الهدف من لزوم ردع التدخلات الخارجية ودحر النزعات المشرذمة سواء الطائفية والقومية والقبائلية والحزبية منها أو الفساد والجهل المتفشي أكثر فأكثر كالسرطان في شرايين وأوردة وخلايا الطفيليات المتسلطة في كل مكان من الوطن العربي ومن دون استثناء حتى الآن.
د. رحيم هادي الشمخي