“ما بعد الظّلام”.. الوجه الآخر لليابان
استحقّت الثقافة اليابانية أن تفرض نفسها وأن تحتلّ مكانتها المميزة في الساحة الثقافية، بما تمتلكه من تراث ثقافي وأدبي واجتماعي مختلف، وبما تتفرّد فيه من قدرة فائقة على التنظيم والتفاني في العمل، إلا أن الملفت والمستغرب في آن، هو الانجذاب الكبير للشباب نحو هذه المجتمعات والتأثر بها بشكل مبالغ فيه، والنظر إليها على أنها المجتمعات الأمثل للعيش.
قد يُظهر الانطباع العفوي والأولي للوحة اليابانية الجمال الكامل، وقد نراها بألوانها وجمالياتها الأكثر مثالية وبهاء، لكن خلف هذه الألوان المبهرة حقيقة مغيبة أشدّ قتامة، تؤكد أن لليابان ليلاً مظلماً كئيباً، ربما هو الأكثر ظلمة، فإذا لجأنا إلى آدابهم، كونها الوثيقة الصادقة التي تعبّر عن أسرار الإنسان وطبيعة الشعوب في أي مكان في العالم دون تزييف أو مبالغة، تَجسّدَ لنا الوجه الآخر الذي لا نراه..
الانتحار.. ظاهرة أدبيّة يجسّدها الواقع
لعل رواية “ما بعد الظلام” للأديب هاروكي موراكامي، كغيرها من مؤلفات الأدب الياباني، تحاول أن تعكس بتجرّد بنية المجتمع الذي تنتمي إليه وتكشف الكواليس الحقيقية لطبائع أفراده ومسارات حيواتهم..
فحين تسود الغربة مشاهد رواية ما من بدايتها إلى النهاية، وحين تتقن شخوصها العزلة وتدمن الهروب من الواقع والناس وحتى العائلة، حينها ندرك تماماً أننا أمام أدب يعكس مجتمعاً يعاني صقيع المشاعر وتفكك العائلة وسط غياب الروابط والدفء العائلي الذي يمنح الحياة لون الشمس ومعناها..
تحمل رواية “ما بعد الظلام” على عاتقها مهمة نقل هذه المعاني والأحاسيس، حيث تأخذك لطوكيو عاصمة اليابان في ليلة من الليالي التي تنسدل ظلمتها لتعم الزمان والمكان والنفوس وسط شخوص غارقة في وحدتها، فالكل مأزوم، والكل يعاني، ولا حلول..
لاريب أن نقل المعاناة بما تحمله من اغتراب وعزلة وكآبة وسوداوية موجودة في مختلف أنواع الأدب المجتمعات، لكن أن تسيطر وتكون هي السائدة في الأدب، فلهذا دلالاته التي تنعكس بالكلمة، فالموت والانتحار هي ظواهر سائدة في الأدب الياباني، وعند الأدباء اليابانيين، فهم لا يقدمون الموت في أعمالهم فقط، بل إن الكثير منهم يختار الانتحار وسيلة لإنهاء حياته.
أما كاتب هذه الرواية فنجد الانتحار في أغلب رواياته، إلا أنه اختار أن يقدمه بشكل مختلف في هذه الرواية، حيث يقع القارئ في رواية «ما بعد الظلام» على صور للموت ودلالات على الانتحار المباشر.
شخوص ضائعة
تتبدى ملامح الضعف وانعدام الثقة بالنفس، والسوداوية، في معظم أبطال الرواية، فماري الفتاة الشابة التي ينبغي أن تكون في أوج إقبالها على الحياة تختار دوماً الهرب والابتعاد والعزلة والصمت، تبتعد عن الجميع، عمن هم من عمرها، وحتى عن والديها، لتلجأ للسفر خارج اليابان..
أما شقيقة ماري فهي فتاة جميلة، ومحط إعجاب الكثيرين، لكنّها تختار النوم وسيلة لتهرب من واقعها وضغوطات مجتمعها حيث تبقى نائمة لأكثر من شهرين أمام عجز الأطباء، وكأنها اختارت النوم كسبيل للهرب نحو الموت والانتحار، حتّى بطل الرواية الذي يتوقّع منه القارئ أن يكون أكثر قوة يبدو محبطاً ضائعاً لا يمتلك القدرة على التغيير.
بطولة للزمن.. وجمود في اللّغة
تميزت الرواية بتقنيات سردية قوية ومتماسكة، حيث استطاع الكاتب أن يتجول بسرده بين عوالم كثيرة لتعود وتتلاقى في مسار واحد ضمن قالب محكم، فمهما تعددت الشخصيات وتشعبت الأحداث وتغيرت الأماكن، امتلك موراكامي القدرة على ربط كل جزئيات روايته ببعضها لتتضح الصورة الكاملة في نهايتها..
كما أنه يتمتع بقدرة وصفية تتبع التفاصيل الدقيقة لكل ما يتخيله أو يراه حيث يعطي كل شخص وكل مكان وكل حدث حقه من الوصف..
أما الزمن فيعد بطلاً مطلقاً في هذه الرواية فعلى الرغم من ضيق الوقت الذي حدده للراوية، والذي لا يتجاوز سبع ساعات، إلا أنه كان كافياً لموراكامي ليشكل عالماً سردياً بأكمله ويكوّن عوالم شخصياته وحواراته باقتدار دون تكرار أو تفكك ما يشكل تحدياً نوعياً يُحسب للكاتب.
ما يؤخذ على الكاتب اللغة الباهتة التي استخدمها في روايته حيث غابت عنه اللغة الشعرية التي تستدعيها أدبية الرواية وجاءت أوصافه باردة وكأن الجمود الذي يشعر به الكاتب قد تسرب إلى حروفه وأفرغها من النبض والحياة.
كما تعمد الروائي في مشاهده أن يرى من بعيد وأن ينأى بنفسه وبمشاعره، دون أن يتدخل، ودون أن يمتلك القدرة على التعاطف مع شخوصه حتى في أكثر المشاهد التي تحتمل ذلك.
اللوحة الكاملة
تأتي هذه الرواية في سياق الروايات اليابانية الكثيرة التي تمثل الواقع الياباني، كما هو، لتنقل الحقيقة وتخلق التوازن، ولتجسد أبعاد اللوحة الكاملة التي على الرغم من نواحي تميزها المضيئة، إلا أن هناك نواحي مظلمة حاولت الرواية التعمق فيها وسبرها بعناية وشفافية، في محاولة لطرح المعاناة ومحاكاتها ثم البحث عن مخارجها، ولو بشكل غير مباشر.
هديل فيزو